الغزالي وتهافته! - د. إبراهيم المطرودي

  • 10/29/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أبو حامد نقطة تحول، ونقاط التحول ذات تأثير كبير، وإليه يرجع تأسيس وعقلنة الموقف المناوئ للفلسفة والفلاسفة، فالناس إلى يومنا هذا يرجعون إلى إشاراته، ويأخذون بتقريراته، ويرددون طروحاته، ولي في النظر إلى موقفه طريقان: الأول يدور حول اختلاف عصرنا، وتمايزه عن عصره، والثاني حول رأي الفلاسفة وغيرهم يُقال: إن الخط المستقيم هو أقصر الطرق في الوصول إلى الهدف، وأحفظها للوقت والجهد، وأمنعها من التّيه عن المراد، وكذلك هي الأفكار المباشرة عن العلل هي الطريق المستقيم لمحاولة حلها، أو على أقل تقدير إثارتها، وشغل الذهن بها، فالانشغال بنقد أهل هذا العصر في موقفهم من الفلسفة والفلاسفة، وتتبع أقوالهم، ومحاولة وقف مدها الكبير، لن يصنع لنا شيئا، ولن نخرج منه بكثير؛ لا بدّ من الاتجاه إلى منبع الداء، ونقده، ورد قوله عليه، وأبو حامد الغزالي هو منبع الموقف الرديء من الفلسفة والفلاسفة، أو هو أحد أقدم مَنْ نعرف، فلِم العناء مع نقلة أقواله، وحفظة آرائه، حاور الأصل، ووجه نقدك إليه؛ فمن جاء بعده لم يزد شيئا كثيرا على ردوده، وتخوفاته، ودعوته إلى زجر الناس عن الفلسفة والفلاسفة، وأهل عصرنا هذا، وأقصد المحاربين للفلسفة والفلاسفة، والمحذرين منهما، من حججه يمتحون، وإلى ذرائعه في حربهما يعودون، وفي ثنايا خطابه من الآفات، ما يستدعي وقوف أهل هذا العصر الذين اختلفت ثقافتهم، وانداحت عقولهم، وآمنوا أن الانفتاح هو سبيلهم إلى التقدم، وطريقهم إلى عيش العصر بما فيه، ونافذتهم، إن أرادوا، إلى المشاركة في صناعته، ورفاه أهله، وخلوصهم إلى الحق، ووصولهم إليه. أبو حامد نقطة تحول، ونقاط التحول ذات تأثير كبير، وإليه يرجع تأسيس وعقلنة الموقف المناوئ للفلسفة والفلاسفة، فالناس إلى يومنا هذا يرجعون إلى إشاراته، ويأخذون بتقريراته، ويرددون طروحاته، ولي في النظر إلى موقفه طريقان: الأول يدور حول اختلاف عصرنا، وتمايزه عن عصره، والثاني حول رأي الفلاسفة وغيرهم، وخصوصا الفارابي، في نسبته بعض الآراء إليهم، وتكفيره لهم بها. ففي الطريق الأول نجد أننا أصبحنا نؤمن بضرورة الانفتاح، وندعو إليه، ونعتقد أنّ للناس ما اختاروه لأنفسهم، وبدأنا نربي أجيالنا على هذه الثقافة، وندرك أنها الخيار الوحيد لنا، وداعينا إلى هذا أننا أكثر الناس احتياجا إلى أمم العصر المتقدمة، وأعظمهم حاجة إلى ما في ثقافاتهم من خير، واندفعنا منذ عقود إلى بلادهم، ورمينا بفلذات أكبادنا إلى ديارهم، وهم أهل الفلسفة الحديثة، وبلادهم مصنع الفلاسفة الكبار، وصنيعنا هذا كان يُحذّر منه الغزالي، ويزجرنا عن الوقوع فيه، ولعل العلة الرئيسة هو أن الرجل لم ير من الغرب ما نراه اليوم، ولم يقع له مثل ما وقع لنا، حين اشتد عود الفلسفة، وأصبحتْ قائدة للمعرفة العلمية، ورائدة من رواد آفاق النظريات العلمية والتفكير العلمي؛ حتى اندفع أينشتاين، وهو أحد كبار علماء هذا العصر، إلى أن يقول: "أنا مقتنع بأن الفلاسفة كان لهم تأثير كبير على تقدم التفكير العلمي" (علي المالكي، الأسس العلمية والفلسفية لنظرية النسبية، 198). وحين يُذكر الانفتاح، ويُتحدث عنه، تُطلّ علينا شخصية تأريخية حاذقة، شرعنت الانفتاح، ودعت إليه، وآمنت به، وتلك هي شخصية أبي متعب عبدالله بن عبدالعزيز، طيب الله ثراه، ونوّر ضريحه، وحذق هذه الشخصية الفذّة تجلّى في أن الاجتماع البشري لا يتم أبدا دون أن يصبح مفهوم الانفتاح أخا له، وصاحبا من أصحابه، فبين الاجتماع البشري والانفتاح علاقة وطيدة؛ إذ هما وجها عملة المجتمعات البشرية، فلا يُمكن قيام الاجتماع البشري، وتضامن أهله، والتداعي إليه، دون أن يكون الانفتاح على الآخرين حاضرا، والاندماج معهم على اختلافهم قائما، ومن يُفكّر في الاجتماع البشري، ويحرص على صلاحه وأمنه، دون أن يُفكر في ضرورة الانفتاح، ومحوريته فيه؛ فهو كمن يحلم في نفع عملة مالية دون أن يكون له وجه آخر!. والانفتاح يقود إلى الحوار، والحوار ركيزة من ركائز المجتمع، وأصبح اليوم مشرعا مع المختلف على مصراعيه؛ نحاور المخالف في المذهب، والمخالف في الدين؛ فما بال الفلاسفة والفلسفة؟ والانفتاح والحوار ثمرتهما الدفاع عن حرية الرأي، والوقوف مع المختلفين، وهو مبدأ اجتماعي، ومطلب ديني؛ هو اجتماعي؛ لأن عدم القبول بحرية الناس في آرائهم ومذاهبهم يبطل الغاية من الاجتماع ذاتها؛ إذ الاجتماع هدفه تحقيق المصالح، وتكامل الناس في الأمور الدنيوية، وليس من أغراضه اتحاد الأديان واتفاق المذاهب، واجتماع الرأي، ولو كانت هذه الأمور مطلوبة، وفي الاجتماع مشروطة؛ لافترقت المجتمعات، وبطلت فكرة الاجتماع البشري من أساسه، ومن يقرأ اختلاف المسلمين وحدهم يُدرك استحالة ديمومة الاجتماع، المشروط بوحدة الرأي، والقائم على هذه الرؤية، أفلا يكون من الخير أن نتفادى تكرير التأريخ عبر النزوع إلى ثقافته، والإيمان بها، والحرص عليها؟ والطريق الثاني في النظر إلى أطروحة الغزالي في تهافته هو طرح ما يُضاد قوله، وينقضه؛ فالغزالي في كتابه يذكر أنه اعتمد في الرد على الفلاسفة، خاصة أرسطو، نقل الفارابي عنهم، وعزوه إليهم، وفي هذا يقول: "وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام الفارابي أبو نصر، وابن سينا، فنقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهما في الضلال.. فليعلم أنا مقتصرون على رد مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين؛ كي لا ينتشر الكلام بحسب انتشار المذاهب" (الغزالي، تهافت الفلاسفة، ت سليمان دنيا،) فهل نَقَل الفارابي عنهم قدم العالم، وعدم الحشر، وعدم علم الله تعالى بالجزئيات، وهي القضايا الثلاث التي بنى الغزالي عليها تكفيرهم؟ حين العودة إلى كتاب الفارابي "الجمع بين رأيي الحكيمين، أفلاطون وأرسطو، أخرجه صلاح الهوّاري" رأيتُ الرجل يعزو إلى أفلاطون وتلميذه رأيا مختلفا، وقولا مغايرا، ووجدته يُناهض الغزالي في قوله، ويُنازعه في نسبة هذه الأقوال الثلاثة إليهم، ومن الغريب أن يكون الغزالي اتّكأ على الفارابي، واعتمد عليه في الآراء المنسوبة إلى أرسطو خاصة، والفارابي ينقل في كتابه هذا شيئا منافرا لنقل الغزالي، ومجانبا له؛ فأين يكمن الغلط، في نقل الغزالي عن الفارابي أم في نقل الأخير عن الفلاسفة؟ يقول الفارابي في الباب الخامس عشر من كتابه، وعنوانه "العالم محدث عند أفلاطون وأرسطو، ومن قال: إن أرسطو يقول بقدم العالم مخطئ" : "وبيّنا أنه ليس لأحد من أهل المذاهب والنحل والشرائع وسائر الطرائق، من العلم بحدوث العالم وإثبات الصانع له، وتلخيص أمر الإبداع، ما لأرسطو طاليس، وقبله لأفلاطون، ولمن سلك سبيلهما" (62). ولعل في نقل قول الفارابي ما يُغني عن التعليق على اعتماد الغزالي على نقله، والأخذ مباشرة عنه؛ لأننا أمام أمرين، لا ثالث لهما في هذه القضية، إما أن نصدق الفارابي، ونأخذ بما في كتابه، وإما أن نكذبه، ونأخذ بقول الغزالي. وفي الباب السابع عشر، وعنوانه "قول أفلاطون وأرسطو بالدينونة"، يقول الفارابي: "ومما يُظن بالحكيمين، أفلاطون وأرسطو، أنهما لا يريانه، ولا يعتقدانه، أمر المجازاة والثواب والعقاب، وذلك وهم فاسد بهما، فإن أرسطو صرح بقوله: إن المكافأة واجبة في الطبيعة.. وأما أفلاطون فإنه أودع آخر كتابه في السياسة القصة الناطقة بالبعث والنشور والحكم والعدل والميزان، وتوفية الثواب والعقاب على الأعمال، خيرها وشرها" (71 72)؛ فهذا نقل الفارابي عن الحكيمين، وهو مخالف لما نقله الغزالي في تهافته، وعزاه إليهما. وفي المسألة الثالثة، وهي علم الله بالجزئيات، لم ينقل الفارابي في كتابه هذا خلافا بين الحكيمين فيها، وهذا دليل على عدم الخلاف بينهما فيها، وإنما عرض لها في الباب الخامس عشر قائلا: "وهو أن الباري، جل جلاله، مدبر جميع العالم، لا يعزب عنه مثقال حبة من خردل، ولا يفوت عنايته شيء من أجزاء العالم" (62). وهذه المسألة عينها يقول فيها العقاد: "أما القول بأن الله لا يعلم الجزئيات فلم يحفل به ابن رشد كثيرا؛ لأن هذا القول ليس قولهم..، وواقع الأمر أن مذاهب الفلاسفة الإلهيين لم يرد فيها قط ما يدعو إلى هذه الشبهة" (العقاد، ابن رشد، 39 و40). وهكذا ننتهي إلى أن الغزالي كان ينسب إلى الفلاسفة أمورا ينكرها من ينقل عنه، وهو الفارابي، وينكرها غيره كابن رشد والعقاد، وفي هذا دلالة على أن الغزالي لم يطلع على كتاب الفارابي نفسه، ولم يأخذ الأقوال عنه، وفي هذا ما فيه من العيب لقامة علمية، كان لها دور كبير، وتأثير عظيم، وفيه تبيان لوجه من التهافت العلمي عند صاحب التهافت نفسه؛ إذ يظهر بمظهر من يُكفّر الناس بنقل غيرهم عنهم، ويُدينهم بأفهامهم لهم، وهي الطامة الكبرى التي ما زالت سارية في ثقافتنا، وحجتها حدثنا الثقة أن فلانا كان يقول بكذا وكذا!.

مشاركة :