في أعقاب نهاية حرب السويس عام 1956، وبعد أن وجه الرئيس الأمريكي دوايت إيزنهاور إنذاره الشهير، لدول العدوان الثلاثي ضد مصر، بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، وأجبرهم على التراجع عن خططهم، اكتشف الإسرائيليون القدرة الحقيقية للكونجرس الأمريكي على إلحاق الضرر البالغ بالدولة العبرية، حال أراد القائمون في مبنى الكابيتول في العاصمة الأمريكية واشنطن ذلك. في ذلك الوقت صارح رئيس وزراء إسرائيل العتيد بن جوريون شعبه، بأن خطر أي كونجرس قوي على إسرائيل، أقوى ربما من خطر الدول العربية مجتمعة، ومن هنا بزغ إلى النور اللوبي الأمريكي الداعم لدولة إسرائيل، ولا يصح أن يقال اللوبي اليهودي في الداخل الأمريكي، ذلك أن له جناحين، الأول تمثله الأقلية اليهودية الأمريكية، فيما الثاني فهو جناح الأكثرية من التيار اليميني الأمريكي الداعم لدولة إسرائيل. طوال العقود السبعة المنصرمة، لعب هذا اللوبي دورا حيويا في مد الجسور ما بين واشنطن وتل أبيب، وقد سَخَّرت جماعة الإيباك التي تضم المنظمات المساندة لإسرائيل ماديا ومعنويا، جميع مصادر الإمبراطورية الأمريكية لخدمة إسرائيل، ويكفي المرء أن يتذكر ونحن في ذكرى انتصارات حرب أكتوبر العظيمة عام 1973، الجسر الأمريكي الذي نقل الأسلحة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى قواعد إسرائيل التقليدية، بعد أن فقدت العسكرية الإسرائيلية توازنها في ست ساعات، على حد التعبير الشهير للرئيس المصري الشهيد أنور السادات. هل اليوم شبيه بالأمس؟ وهل التاريخ يعيد نفسه؟ التساؤل مقصود به فكرة الدعم الأمريكي غير المحدود لإسرائيل، ووقوف الكونجرس بكامل نوابه وراء تل أبيب ونصرتها ظالمة دوما غير مظلومة أبدا. في هذا السياق وبدون اختصار مخل أو تطويل ممل، ينبغي الإشارة إلى أن هناك تغيرا كبيرا جرت به المقادير، وبنوع خاص خلال العقدين الماضيين، في الداخل الأمريكي حول الرؤية الأمريكية لا سيما بين الأجيال الشابة لدولة إسرائيل، ولطريقة تعاطيها مع الجانب الفلسطيني بنوع خاص. هنا رأينا حركات عدة للمقاطعة، تمتد من عند شباب الجامعات، إلى الأساتذة الجامعيين أنفسهم، وصولا إلى قطاعات إعلامية وثقافية أمريكية متباينة، عطفا على الرفض التقليدي لليسار الأمريكي للارتماء في أحضان إسرائيل. بل أكثر من ذلك، فإن هناك أصواتا يهودية أمريكية، مثل جماعة “جي ستريت”، الجناح المنشق عن الإيباك، ترى أن دعم إسرائيل وهي على هذا الحال، هو نوع من أنواع الانتحار المستقبلي للشعب اليهودي، بسبب السياسات التي تقوم عليها وقد باتت دولة الأبارتهايد الوحيدة في العالم، أي الدولة التي تحتل أراضي الغير من دون وازع أو رادع. لماذا هذا الحديث الآن؟ في أواخر شهر سبتمبر أيلول المنصرم، نشر مركز ستراتفور للدراسات البحثية والاستراتيجية في الداخل الأمريكي، والمعروف بأنه مركز استخبارات الظل، ورقة بحثية عن الدور الذي يقوم به التقدميون الأمريكيون من الحزب الديمقراطي، ويهدد الدعم المطلق لدولة إسرائيل. بالطبع غير خاف عن الأعين الكتابات المعمقة التي ظهرت في الداخل الأمريكي خلال العقدين الماضيين، حول الأكلاف التي يتحملها المواطن الأمريكي من جراء الدعم غير المحدود لدولة إسرائيل، والأمر لا يتوقف أبدا عند حدود تقديم المساعدات المالية وإن كانت بالمليارات، وكذا الدعم الأدبي والمعنوي في كافة المحافل الأممية والمؤسسات الدولية، بل المقصود هو كيف باتت واشنطن رديفًا للاحتلال الإسرائيلي لحقوق وأراضي الغير. هنا يتذكر المرء العمل الفكري الكبير الذي قدمه كل من البروفيسور ستيفن والت، وزميله جون ميرشايمرز، عن مسألة الحضور الإسرائيلي في قلب وعقل السياسات الأمريكية، وكيف أن سمعة الأمريكيين قد تكبدت الكثير في عيون غالبية إن لم يكن كل سكان العالم من جراء هذا الدعم المطلق. تقرير ستراتفور الذي نحن بصدده، سلط في واقع الأمر أضواء غامرة على الزخم الذي تكتسبه مجموعة التقدميين الديمقراطيين في الشارع الأمريكي، مدفوعا بانتشار رؤى سياسية جديدة في أوساط الناخبين الشباب بشأن إعادة النظر في الدعم الأمريكي لإسرائيل، ومشيرا إلى التحول الذي قد يشهده الكونجرس في الأعوام المقبلة بشأن السياسات التقلدية الأمريكية تجاه إسرائيل، حليفها الأقوى في منطقة الشرق الأوسط. هل الأمر بالفعل يمثل خطورة ما على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية؟ يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، لا سيما وأن هناك مشرعين من الحزب الديمقراطي، ذاك الذي عرف تاريخيا بثبات مواقفه على تبني إسرائيل وسياساتها في كافة الأجواء والأنواء، الظروف والمناسبات، نقول إن هؤلاء قد سحبوا بندا ينص على تخصيص مليار دولار من مشروع قانون تمويل الحكومة الأمريكية لإعادة إمداد الصواريخ الاعتراضية لمنظومة “القبة الحديدية ” الإسرائيلية، بعدما هدد التقدميون الذين عارضوا البند بالتصويت ضد مشروع قانون تمويل الحكومة الأمريكية برمته. ولعل المقلق لقادة إسرائيل، هو أن هذه ليست المرة الأولى التي تجد تل أبيب نفسها تحت سيف التهديدات الأمريكية بالمنع عوضا عن المنح، ففي مايو آيار الماضي، حاولت المجموعة نفسها من الديمقراطيين عرقلة أي تمويل عسكري أمريكي لإسرائيل، وقد كان ذلك خلال حرب إسرائيل على غزة، وكانت المحاولة متعلقة بمنع صفقة أسلحة أمريكية دقيقة التوجيه تقدر قيمتها بـ 735 مليون دولار. تبدو العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية، أمام منحنيات خطيرة في قادم الأيام، لا سيما إذا جرى إحياء الاتفاق النووي الأمريكي – الإيراني، ما يعني أن أزمات إسرائيل في الكونجرس مرشحة للمزيد من التعقيد قبل الوصول للمرحلة التاريخية المتوقعة من انسداد أفق العلاقات مرة وإلى الأبد، وهو أمر لن يخلو من تطور دوجمائي، يحتاج إلى قراءة مفصلة قادمة بإذن الله.
مشاركة :