من منا لا يبتهج عندما يحصل على كمبيوتر جديد أو هاتف محمول من أحدث طراز، من منا لا يريد أن يمتلك في منزله تلفزيون "سمارت"، أو مجموعة متنوعة من أجهزة ألعاب الفيديو أو آخر صيحات التكنولوجيا، التي لا تتوقف عن التطور والتجديد، من منا لا يريد أن يحلق في هذا العالم، الذي يجعل الكرة الأرضية بتنوعها وثرائها على بعد لمسة من أصابعنا. من منا لا يريد أن يقتني آخر ما أبدعه العقل الإنساني من منتجات تكنولوجية، حتى إن لم يكن بها عليم، أو لا تتخطى علاقته معها واستخدامه لها الحد الأدنى مما تمتلكه تلك التقنيات من إمكانات، بحيث غالبا ما يلجأ لأبنائه أو أصدقائه الأكثر علما ودراية لمساعدته في كل خطوة يخطوها في هذا العالم، الذي يبدو شديد التعقيد لكثيرين. من حقائق اليوم إنه لا غنى لنا اليوم عن المنتجات التكنولوجية، فقد بات اقتناؤها خليطا بين الرغبة والهوس، الذي ينتاب أغلبنا، حتى وإن لم نكن لها من المستخدمين، لا فرار إذن من مقتنيات التكنولوجيا وتملكها، ولكن لتلك الرغبة والاحتياج تكلفته أيضا، لا أعني هنا التكلفة المالية المتعلقة بثمن السلعة المبتغاة، ولكن تكلفة أخرى غالبا ما نغمض أعيننا عنها، ولا نسأل أنفسنا بشأنها، بل ونتجاهلها ولا نبحث في تبعاتها أو قدرتنا على التعامل معها. هذه المنتجات وبلا جدال تسهم في تحسين مستويات المعيشة، ومن المفيد للبشر أن يتمكن المزيد والمزيد من سكان الكوكب من شرائها، لكن الطلب العالمي المتزايد يفوق قدرتنا على إعادة تدوير المنتجات الإلكترونية أو التخلص منها بأمان، فبمجرد أن تصبح قديمة ومهملة، فإنه يتم إلقاؤها في المكبات العمومية دون الأخذ في الحسبان تلويثها للبيئة، وما تسببه من إيذاء للناس وللبيئة المحيطة. فلا أحد يسأل نفسه عادة وقبل شراء هاتف محمول جديد ما هو فاعل بهاتفه القديم، أو هل من وسيلة للاستفادة من كمبيوتره، الذي لا يزال صالحا للاستعمال، ولكنه بات قديما بعض الشيء، وماذا عن "تلفزيوني الاسمارت"، الذي سأقوم باستبداله بآخر أكثر "اسمارتية" إذا جاز هذا التعبير، في كثير من المجتمعات تجد المقتنيات التكنولوجية المستهلكة مصيرها المحتوم بإلقائها في القمامة، بصفتها الوسيلة المتاحة للتخلص من المنتجات التكنولوجية والكهربائية، وإفساح الطريق لاستهلاك منتجات أكثر حداثة وتقدما. يبدو الأمر للوهلة الأولى بسيطا للغاية، ألق هاتف المحمول القديم أو حاسوبك الذي توقفت عن استخدامه في مكب النفايات، ولكن "جبال النفايات الإلكترونية"، التي تتراكم يوما بعد آخر، بدأ ومنذ أعوام في التحول من تحد يواجه المجتمعات إلى لعنة ومن ثم كارثة بيئية وصحية تترك بصمات سلبية ليس علينا فقط وإنما على أجيال الغد. منذ 2014 زادت كمية النفايات الإلكترونية المعاد تدويرها بمقدار 1.8 مليون طن فقط كل عام، بينما زاد إجمالي كمية النفايات الإلكترونية المتولدة بمقدار 9.2 مليون طن خلال الفترة نفسها، وهذا دون أن نأخذ في الحسبان كمية النفايات الإلكترونية غير المسجلة. مع تفاقم المشكلة تعالت الأصوات المحذرة منها، وبمرور الوقت أصبح العالم أكثر إدراكا لخطورة جبال النفايات الإلكترونية على صحة الأجيال المقبلة من الأطفال والمراهقين والنساء، خاصة الحوامل وأيضا الرجال، سواء كانوا عاملين في مجال التخلص من النفايات أو يقطنون بالقرب من مكباتها. فبدون نظام موثوق لإدارة النفايات الإلكترونية، يتم إطلاق المواد السامة، التي تستخدم في تصنيعها في البيئة، بحيث تضر بالعاملين أو الأشخاص، الذين يعيشون في مناطق قريبة من مناطق التخلص من النفايات، ويشير الخبراء على سبيل المثال إلى أن مادة الزئبق المستخدمة في شاشات الكمبيوتر والإضاءة الفورية، التي تنطلق في البيئة إذا لم يتم تدوير تلك النفايات الإلكترونية بطريقة علمية، ومن المرجح أن نحو 50 طنا من الزئبق يتم ضخها في البيئة كل عام، نتيجة العمليات غير الرسمية والموثوق بها للتخلص من النفايات الإلكترونية. القلق الدولي المتنامي من تلك المشكلة دفع بمنظمة الصحة العالمية، وعلى الرغم من الانشغال العالمي بوباء كورونا، بنشر تقرير في منتصف العام الجاري تدعو فيه إلى الإسراع باتخاذ إجراءات أكثر فاعلية وملزمة لحماية الأطفال والمراهقين والأمهات الحوامل من التهديد الصحي المتزايد من النفايات الإلكترونية، لتدق ناقوس الخطر من مغبة المعالجة غير الرسمية للأجهزة الإلكترونية أو الكهربائية المهملة، وما سينجم عنها من تداعيات كارثية على الصحة العامة. من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" الدكتور مايلز بارك، أستاذ الصحة العامة في جامعة سوانزي "تتزايد أحجام الإنتاج للمنتجات الكهربائية والتكنولوجية بشكل سريع، كما أن عملية الإحلال في استهلاك المنتجات الإلكترونية متسارعة للغاية، بحيث يمكننا وبلا مبالغة القول إن هناك تسونامي من النفايات الإلكترونية، وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن هناك نحو 13 مليون امرأة في العالم تعمل في قطاع النفايات غير الرسمية، ما يعرضهن للنفايات الإلكترونية وبعضها سام". وأضاف: "إذا كانت النسوة حوامل فإنهن يعرضن صحة الجنين ونموه لبقية حياته للخطر، هناك أيضا 18 مليون طفل ومراهق بعضهم لا تزيد أعماره على خمسة أعوام يشاركن في القطاع الصناعي غير الرسمي، الذي تعد معالجة النفايات قطاعا فرعيا منه، وفي كثير من المجتمعات الفقيرة والنامية سنجد مدارس للأطفال أو أطفال يلعبون بالقرب من مراكز إعادة تدوير النفايات الإلكترونية، بحيث يمكن أن تضر المستويات العالية من الزئبق والرصاص بالقدرة التفكيرية للأطفال". وبالفعل، فإن تقرير منظمة الصحة العالمية بشأن خطر النفايات الإلكترونية يشير إلى أن العمال الذين يستهدفون استعادة المواد القيمة مثل النحاس والذهب من النفايات الإلكترونية يتعرضون إلى 1000 مادة ضارة، وأن الطفل الذي يأكل بيضة دجاجة واحدة تعيش قرب مكبات للنفايات الإلكترونية سيمتص 220 ضعف الحد اليومي، الذي تفرضه سلامة الغذاء الأوروبية على تناول الديوكسينات المكلورة وهو مادة سامة وضارة للغاية. ووفقا للشراكة العالمية لإحصاءات النفايات الإلكترونية فقد نما تسونامي النفايات الإلكترونية حول العالم 21 في المائة في الأعوام الخمسة حتى 2019، حيث أنتج العالم في 2019 ما يقدر بـ 53.6 مليون طن متري من النفايات الإلكترونية، وقدر وزن النفايات الإلكترونية في 2020 بما يصل إلى 350 سفينة سياحية تم وضعها بجوار بعضها بعضا لتشكل خطا بطول 125 كيلو متر. بدوره، يرى، البروفيسور طوبي ليبوسكي، أستاذ التصميمات الصناعية في جامعة لندن، أن المشكلة ستزداد حدة في الأعوام المقبلة إذن أن ما يتم تدويره من النفايات الإلكترونية لا يتجاوز 17.4 في المائة من الإجمالي العالمي، أما الباقي فيتم التخلص منه بصورة غير قانونية خاصة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ويتم ذلك من خلال العمالة غير الرسمية، مشيرا إلى أن النفايات الإلكترونية، التي تم التخلص منها بصورة قانونية حالت دون إطلاق ما يصل إلى 15 مليون طن من غاز ثاني أكسيد الكربون في البيئة. ويستدرك في حديثه لـ"الاقتصادية" أن "الأزمة تتفاقم بمعدلات متسارعة لأن نسبة تدوير النفايات الإلكترونية أقل بكثير من التراكم المستمر للنفايات الإلكترونية، ففي كل عام ينمو إجمالي كمية المعدات الكهربائية والإلكترونية التي يستخدمها العالم بمقدار 2.5 مليون طن، وهذا يمثل نحو 7.3 كجم لكل شخص، وكان للقارة الآسيوية نصيب الأسد أو ما يقدر بـ 24.9 مليون طن تليها الأمريكتان 13.1 مليون طن وأوروبا 12 مليون طن، بينما كان نصيب إفريقيا هزيلا نسبيا، ولم يتخط 2.9 مليون طن". ولكن ماذا عن المستقبل؟ هناك ما يشبه الإجماع بين الخبراء بأن الأمور تتطلب وقفة سريعة وجادة من المجتمع الدولي لإيجاد حل جذري لتلك المشكلة، فبحلول 2030 من المرجح أن يتضخم المجموع العالمي من النفايات إلى 74.7 مليون طن أي نحو ضعف الكمية السنوية من النفايات الإلكترونية الجديدة في 16 عاما، وهذا يجعله أسرع تدفقا للنفايات المنزلية نموا في العالم، ويغذيه بشكل أساسي الأشخاص الذين يشترون المنتجات الإلكترونية ذات دورات الحياة الأقصر وخيارات الإصلاح الأقل. في البلدان ذات الدخل المرتفع يعتقد أن نحو 8 في المائة من النفايات الإلكترونية يتم التخلص منها في مكبات النفايات، بينما يتم تصدير ما يراوح بين 7 و20 في المائة منها. من ناحيته، أشار الباحث في مجال البيئة أندروا ماكسويل إلى أن القضية أصبحت أكثر تعقيدا في ظل ظهور مجموعات ضغط وتكتلات ذات طبيعة دولية تتكسب من النفايات الإلكترونية حتى ولو أدى ذلك إلى خسائر اقتصادية وصحية للآخرين. وفي هذا الإطار، يقول لـ"الاقتصادية" إن "الدراسات تميل إلى تجاهل القضايا المهمة المرتبطة بالنفايات الإلكترونية المصدرة بشكل قانوني، التي وصلت إلى نهاية عمرها الإنتاجي، كميات كبيرة منها تصدر للبلدان النامية خاصة في القارة الإفريقية، ففي بعض البلدان الإفريقية لا يستطيع 80-90 في المائة من السكان شراء معدات إلكترونية جديدة، وبالتالي هناك طلب كبير على السلع المستعملة، التي يمكن شراؤها بثلث السعر، ولكن في أغلب البلدان الإفريقية لا توجد ضوابط بخصوص المخلفات الإلكترونية والبنية التحتية الخاصة بالتجميع وإعادة التدوير ضعيفة وهاشة أو لا توجد في الأساس". لكن مع تزايد الوعي البيئي العالمي، كان على الشركات العالمية المنتجة للإلكترونيات إنشاء ما يعرف بـ "تحالف حلول النفايات الإلكترونية لإفريقيا"، الذي يضم تعاونا بينها للعمل مع الحكومات والمنظمات المحلية والدولية لتطوير البنية التحتية وإيجاد مناخ جاذب للاستثمار في مجال إعادة تدوير النفايات الإلكترونية. وعلى الرغم من الترحيب الذي وجدته تلك الخطوة من قبل كثير من الخبراء، فإن بعضهم يجدها غير كافية، ويشيرون إلى أن التصدي لتسونامي النفايات الإلكترونية يتطلب العمل في اتجاهين في آن، الأول ضخ مزيد من الاستثمارات في مجال صناعة إعادة تدوير النفايات الإلكترونية، أما الثاني فيتطلب إحداث ثورة تكنولوجية في مجال القطاعات الأكثر تعقيدا وخطورة في المنتجات التكنولوجية، التي يصعب تدويرها بوصفها أجزاء من تلك المنتجات. في هذا السياق، يقول لـ"الاقتصادية" المهندس ميتشال ماك كي، المتخصص في مجال صناعات إعادة التدوير، إنه "مع تزايد القلق بشأن تأثيرات التغير المناخي، تعزز بعض الدعوات موقعها وموقفها بالتطورات الجارية في تكنولوجيا البطاريات تحديدا، فالبطاريات تستخدم في الساعات وأجهزة الكمبيوتر المحمول والهواتف المحمولة وعديد من القطاعات الإلكترونية الأخرى، لكن الحماس الشديد للبطاريات، التي تمثل جزءا رئيسا في الأجهزة الإلكترونية لم يرافقه اهتمام حقيقي من المصنعين لإيلاء الاهتمام الواجب لجعل هذه الأجهزة أكثر استدامة، ومن ثم تخفيض جزء كبير من النفايات الإلكترونية". ويضيف "حتى الآن تشكل البطاريات تحديات في إعادة التدوير فهي مكلفة ومعقدة من الناحية الفنية، ومن ثم نحن في حاجة إلى ثورة تكنولوجية تطيل عمر الأجهزة الإلكترونية لخفض معدلات الإحلال والاستبدال ومن ثم تقليص التراكم السنوي للنفايات الإلكترونية، وأيضا تصميمات جديدة تجعل الأجهزة الإلكترونية أكثر استيعابا لعمليات التحديث، بما يسهم أيضا في خفض معدلات إحلال الأجهزة الإلكترونية ومن ثم النفايات". مع هذا ترى الخبيرة الاستثمارية روزي هيدي أنه من خلال توسيع النطاق في مجال إعادة تدوير النفايات الإلكترونية وضخ مزيد من الاستثمارات فيها فإنه تمثل على حد وصفها منجما للمعادن الأرضية النادرة. وتوضح لـ"الاقتصادية"، تعد المعادن النادرة أمرا بالغ الأهمية لصناعة التكنولوجيات الفائقة، التي تدخل كمكون أساسي في الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وعديد من الأجهزة اليومية الأخرى، لكن الطلب المتزايد والعرض العالمي المحدود يعني أنه يجب أن نجد طريقة عاجلة لاستعادة هذه المعادن بكفاءة من المنتجات المهملة. وتضيف "تضاعف الطلب على المعادن النادرة إلى 125 ألف طن في 15 عاما، ومن المتوقع أن يصل الطلب السنوي عليها إلى 315 ألف طن 2030، نتيجة الإقبال على الأجهزة الإلكترونية، واستخراج تلك المعادن من الأرض مكلف وغير فعال في أحيان كثيرة، وله تأثيرات بيئية هائلة، كما أن 70 في المائة من الإنتاج العالمي يأتي من الصين، ما يجعل السوق العالمية رهينا لسلطات بكين". وتستدرك قائلة، "من ثم إعادة تدوير النفايات الإلكترونية لاستعادة تلك المعادن النادرة يمثل منجما من الذهب للمستثمرين في هذا المجال، قد تكون قضية النفايات الإلكترونية بعيدة عن الحل الجذري حاليا، لكن هذا لا يجب أن يحول دون مواصلة الجهود الدولية لزيادة الوعي العالمي بخطورة المشكلة عبر مجموعة من الحلول المترابطة، لكن مربط الفرس في التصدي لتلك المشكلة بشكل جذري سيظل مرتبطا بنقطة محورية، تقوم مدى الإدراك الحقيقي لدى سكان الكوكب بأن الإفراط في استهلاك المنتجات التكنولوجية ربما في بعض الأحيان تكون مخاطره المستقبلية أكثر من فوائده الآنية.
مشاركة :