اكتشاف الموميات في مصر لم يعد يثير الاهتمام منذ القرن التاسع عشر.. فالتحنيط كان وسيلة الفراعنة لتجهيز الموتى وتحضير الجنائز.. لهذا السبب أصبحت الموميات بتوالي القرون أكثر من الأحياء أنفسهم لدرجة استعملها الإنجليز كوقود للقطارات في مصر.. والموميات نموذج للأشياء التي يتوقع علماء الآثار العثور عليها بين الحين والآخر.. يتوقعون اكتشاف موميات جديدة في مصر، وعظام بدائية في أثيوبيا، وتماثيل إغريقية في اليونان، وأوان خزفية في الصين، وقرى زراعية حول الرافدين... غير أن هناك آثاراً لا تقدّر بثمن تأتي بطريقة مفاجئة غير متوقعة.. تكتشف بالصدفة دون سابق إنذار فتقلب موازين التاريخ رأساً على عقب.. تفعل ذلك لأنها إما تكون غامضة أو محيرة أو مفاجئة أو ببساطة غير متوقعة وتخالف كل سياقات التاريخ والمنطق... مازلت أذكر دهشتي من رؤية بقايا صلبان وجدران أديرة في جزر فراسان في جنوب المملكة.. لم يتسن لي معرفة تفاصيلها أو الحضارة التي بنتها ولكنني رأيتها بعيني ولمستها بيدي (وكان مرشدي حينها أديب فرسان الرائع الأستاذ إبراهيم مفتاح) فأدركت من فوري أن جزءاً كبيراً من تاريخ الجزيرة العربية مايزال مجهولاً ولم يستكشف بعد.. أيضا رأيت صوراً لرسومات صخرية في شمال المملكة لحضارة مجهولة سبقت الإسلام بآلاف الأعوام.. وحين سألت أحد المسؤولين في هيئة السياحة (ولماذا لم نسمع عنها حتى الآن؟) قدم لي الإجابة الكلاسيكية المعهودة: الوقت لا يسمح بإعلانها.. فقلت: التوقيت مهم بالفعل؛ فهناك من يعتقد أن الآثار انتظرت ولادته ثلاثة آلاف عام كي يزيلها بنفسه!! ... وأنا شخصياً أعتقد أن أعظم اكتشاف أثري في القرن العشرين هو جيش الخزف الصيني (الذي اكتشف بالصدفة) وليس مقبرة الفرعون المصري توت عنخ آمون (التي كان يسعى خلفها الإنجليز ولصوص المقابر).. فعلماء الآثار كانوا يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء عن تاريخ الصين حتى عثر مزارع صيني بالصدفة على تمثال فخاري أثناء حفره لبئر. وحين بدأت السلطات تحفر الموقع ذهلت من وجود جيش كامل ومجهول لرجال مدججين بالسلاح وكأنهم على أهبة القتال.. بدأت الحفريات عام 1974 خارج مدينة شيآن ومازالت مستمرة حتى يومنا هذا.. أعتبره شخصياً أعظم اكتشاف في القرن العشرين رغم أن البعض يمنح ذلك الشرف للبريطاني هوارد كارتر الذي اكتشف مقبرة توت عنخ آمون في عام 1992... ولكن اكتشاف المقبرة الأخيرة كان متوقعاً ويتعلق بفرعون وحيد لم تكن له أي إنجازات ومات في سن المراهقة.. وفي المقابل شكل اكتشاف جيش الخزف في الصين مفاجأة للعالم كونه غير متوقع (ومجهول بالكامل) وينتشر على مساحة هائلة تحت الأرض.. تم دفن آلاف الرجال بالكامل دون الإضرار بالتفاصيل الدقيقة (ويمكنك رؤيته في النت من خلال إدخال هاتين الكلمتين في جوجل: Terracotta Army).. ويعتقد اليوم أن الجيش هو صورة (طبق الأصل) من جيش الإمبراطور كينشي الذي مات قبل 222 سنة من الميلاد وأمر ببناء هذا الجيش الخزفي لينتقل معه للآخرة.. طلب أن يكون كل تمثال بصورة كل جندي يقابله بما في ذلك طوله ووزنه وسلاحه ولباسه وملامح وجهه وترتيب وقوفه في الجيش.. وهكذا تم صنع آلاف الجنود بحسب هيئاتهم وملامح وجوههم الأمر الذي شكّل (ليس فقط كنزاً غنياً) بل ومكتبة لما كانت عليه حياة الناس في ذلك الوقت! ... وهذه كلها مجرد نماذج لكنوز أثرية غير متوقعة قلبت التاريخ والجغرافيا وأكدت أن ما نعرفه يظل قليلاً مقارنة بما تبقّى تحت الأرض.
مشاركة :