مازالت القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، تنتظر التسوية المفترضة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، رغم مرور 47 عاما على تبنيها برنامج النقاط العشر، أو البرنامج المرحلي القاضي بحل وسط تاريخي، يتمثل بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين عام 1967، إلى جانب دولة إسرائيل (في الدورة 12 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974). فوق ذلك فقد مضى 28 عاما على عقد اتفاق أوسلو (1993) من دون أن تنفذ إسرائيل الاستحقاقات المطلوبة منها حتى في المرحلة الانتقالية، بل إنها فعلت كل ما بوسعها لدفن كل تلك الاستحقاقات، والقيام بكل ما من شأنه ترسيخ وجودها كدولة استعمارية واستيطانية في الضفة الغربية، مع فرضها الحصار المشدد على قطاع غزة منذ العام 2007. المشكلة أنه رغم كل ذلك مازالت القيادة الفلسطينية تراهن على تلك العملية من دون أن تبذل الجهود اللازمة لدراسة خيارات أخرى، أو لإعادة بناء الحقل السياسي الفلسطيني. مع ذلك فإن عملية التسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية التي شكّلت علامة بارزة في التاريخ السياسي للمنطقة العربية، وفي تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، تتضمن إشكاليات عديدة، من الجهة الفلسطينية (كنا في المقال السابق تحدثنا عن الإشكاليات الإسرائيلية لتلك العملية). لكن قبل الحديث عن الاشكاليات الفلسطينية لعملية التسوية، حريّ بنا التأكيد بأن الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ بداية انطلاقها (أواسط الستينيات من القرن الماضي) بدا واضحا أنها، في مواجهتها للمشروع الإسرائيلي، تعاني من مشكلات تكوينية، وعضوية، يمكن تحديدها في المجالات التالية: أولا، الخلل الفادح في موازين القوى لصالح إسرائيل، لاسيما في المجالات العسكرية والاقتصادية والمالية والتكنولوجية، هذا دون أن نتحدث عن تفوق إسرائيل، أيضا، في مجال إدارة الوضع الداخلي، والقدرة العالية على توظيف العلاقات الخارجية؛ وهي مسائل يفتقدها الوضع الفلسطيني. ثانيا، المداخلات (أو التوظيفات)، العربية والدولية في القضية الفلسطينية، فالصراع على فلسطين، لم يكن يوما مجرد صراع بين الفلسطينيين، واليهود المستوطنين. وفي كل الأحوال فإن هذا الوضع لم يكن يعمل لصالح الفلسطينيين، في معظم الأحوال، وفي المحطات الحاسمة، بقدر ما عمل لصالح اسرائيل، ويمكننا هنا المقارنة بين ما تفعله، أو ما تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، وطابع المداخلات العربية في الوضع الفلسطيني. ثالثا، الطابع الإحلالي الإجلائي العنصري للمشروع الإسرائيلي، وهذا ما يميز هذه التجربة، عن تجارب الاستعمار الاستيطاني الأخرى، مثلا في الجزائر، حيث كان للمستعمرين الفرنسيين وطنا أم (فرنسا)، ولم يكن الاستيطان الفرنسي بحاجة لطرد الجزائريين من أرضهم، كحال الاستيطان اليهودي في فلسطين. وكذا الأمر بالنسبة لتجربة الاستيطان في جنوبي أفريقيا، فهذا النظام الاستيطاني العنصري لم يكن يتطلب اقتلاع أهل الأرض الأصليين أيضا. ومعنى ذلك أن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو من الصراعات ذات الطابع الصفري، حيث أن أي مكسب لطرف هو مخسر للطرف الآخر، وهو يأخذ طابع الصراع على الوجود، وعلى المستقبل. رابعا، ليس ثمة للفلسطينيين أرض مستقلة يمارسون من خلالها كفاحهم ضد المشروع الإسرائيلي، فقد تشتّت الفلسطينيون وحرموا من إقامة دولة خاصة بهم، تدير أوضاعهم وكفاحهم ضد المشروع الصهيوني، والأنكى من ذلك أنهم افتقدوا لوحدتهم المجتمعية، وللمؤسسات الجامعة، وخضعوا لأنظمة سياسية واقتصادية متباينة؛ وهذا أثر على شكل كفاحهم، وعلى مستوى إدارتهم لصراعهم ضد عدوهم. خامسا، إن نشوء الحركة الوطنية الفلسطنيية في مناطق اللجوء والشتات، جعلها تعتمد أساسا على الموارد الخارجية، بدلا من اعتمادها على شعبها في تأمين مواردها(!)، بل إن شعبها بات يعتمد عليها، في تأمين موارده وحاجاته، الأمر الذي أخضعها لمداخلات، وتوظيفات معينة، حدت من قدرتها على العمل والتطور، مثلما حدت من قدرتها على تأطير الحالة المجتمعية الفلسطينية. على ضوء المشكلات العضوية لحركة الوطنية الفلسطنيية، يمكننا تعيين إشكاليات التسوية لدى الفلسطينيين، في النواحي التالية: 1 ـ إن انخراط الفلسطينيين في هذه العملية ناشئ، على الأغلب، أولاً، من الصعوبات والتعقيدات المحيطة بهم (الفجوة في موازين القوى وفي المعطيات الدولية والإقليمية غير المواتية لهم بالقياس لإسرائيل)، وثانياً، من الاحباطات التاريخية التي مروا بها في تجربتهم الوطنية، وثالثاً، من المعاناة اليومية يعيشونها، تحت الاحتلال وفي مناطق اللجوء والشتات. القصد من ذلك التوضيح بأن توسّل عملية التسوية بالنسبة للفلسطينيين، لا يبدو نتاجا لوعي سياسي، يحاول تجاوز مأساة الماضي والحاضر والتأسيس لمستقبل جديد، مفتوح الآفاق والأبعاد، بقدر ما يبدو محاولة للتحايل على الواقع البائس، والتعويض عن الخلل البيّن في موازين القوى. وكما هو معروف فإن إسرائيل، بحكم طريقة نشوئها (بالقوة)، وطبيعتها كدولة استيطانية إحلالية، وبواقع كونها دولة لليهود، لم تتح أي مجال للفلسطينيين لإيجاد مقاربة مناسبة، ولو بالحد الأدنى لعملية التسوية. 2 ـ بالنسبة لغالبية الفلسطينيين كانت عملية التسوية بمثابة عملية متخيّلة يأخذون فيها حقوقهم بالتمام والكمال، على اعتبار أنهم تنازلوا عن جزء من وطنهم، فيأخذوا الجزء الباقي (ليقيموا عليه دولتهم)، ويعيدوا اللاجئين إلى أرضهم ومتلكاتهم، التي شردوا منها قبل نصف قرن. لكن تلك التسوية العادلة والشاملة كانت في حقيقتها مجرد تسوية متخيلة، ليس لها أي سند في عالم السياسة الواقعي، فهذا العالم لا يعترف إلا بموازين القوى، أو بالمعطيات الدولية والإقليمية التي قد تعوّض الطرف الأضعف عن الخلل في موازين القوى الذاتية. وطبيعي أن الطرف القوي، في هكذا عالم، هو الذي يقرّر ما يمنحه وما يمنعه، والقصة هنا ليس لها علاقة بالأخلاق أو بالعدالة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالصراع مع الإسرائيليين، الذين يعتبرون أنهم يتصارعون مع الفلسطينيين على الأرض والحقوق والرموز ذاتها؟! 3 ـ غالبا ما يتم التعامل مع قضية التسوية في إطار النصوص، أي الاتفاقات أو التفاهمات، التي يجري التوصل إليها بين الطرفين المعنيين، بدلا من التعامل معها في إطار موازين القوى الذاتية للجانبين والمعطيات المحيطة بهما. وتبين التجارب التاريخية بأن المواثيق تتغير وتتطور، بتغير الموازين والوقائع. إزاء ذلك لا يوجد سبب يدعو أحد لاعتبار أي وثيقة باعتبارها مخلدة، وكأنها “رسالة سماوية”، وهذا ما ينبغي على الفلسطينيين أخذه بالاعتبار في مناقشاتهم الداخلية. 4 ـ في الواقع فإن النقاش الفلسطيني، من حول عملية التسوية، هو نقاش مبتور وناقص لأنه لا يصل إلى نهاياته المنطقية والطبيعية، لأنه يجري في إطارات محدودة ومغلقة، ولا يشمل الأطر الشرعية (الرسمية) ولا المستوى الشعبي. وتفسير ذلك يكمن في: أولا، ضعف الحراك السياسي الفلسطيني وتكلس الساحة الفلسطينية عند بناها وشعاراتها التي انبنت عليها قبل عقود من الزمن؛ ثانيا، غياب وتغييب العلاقات الديمقراطية والمشاركة في الساحة الفلسطينية؛ ثالثا، طريقة العمل الفردية والمزاجية والفوضوية للقيادة الفلسطينية؛ رابعا، الإحساس بأن عملية التسوية تشكل نوعا من الاقتراب من المحرمات، في المزاج الشعبي الفلسطيني. هكذا ثمة إشكاليات عديدة وعميقة للتسوية، عند الإسرائيليين وعند الفلسطينيين، إذ التسويات تنبني على موازين القوى، وعلى المعطيات العربية والدولية، وضمن ذلك على مدى قدرة الفلسطينيين على بناء بيتهم وترتيب أوضاعهم، وتعزيز صمودهم كشعب.
مشاركة :