ماجد كيالي يكتب: بين حلول التسوية الفلسطينية والحل الجنوب إفريقي

  • 12/25/2022
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

لم تبق القيادة الفلسطينية مشروعا لتسوية الصراع مع إسرائيل، إلا وتبنته، طوال 58 عاما على انطلاقة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة (أواسط الستينيات)، هذا ينطبق على التحرير الكامل، والدولة الديمقراطية العلمانية، ورؤية الدولة الفلسطينية المستقلة، ورؤية مرحلة الحل المرحلي وفقا لاتفاق أوسلو (1993). هكذا دخلت القيادة الفلسطينية، أو أدخلت، في عملية سياسية مجحفة وناقصة وجزئية قبل ثلاثة عقود، في حين استغلت إسرائيل ذلك لتكريس وضعها كدولة محتلة ومهيمنة على حياة الفلسطينيين، بين البحر والنهر، لهضم مزيد من أراضيهم والسيطرة على حياتهم، وتجويف حركتهم الوطنية، بتحويلها إلى مجرّد سلطة مقيّدة، ولا معنى لها، غير كونها تسيطر على الفلسطينيين، من دون سيطرة على الأرض والموارد والمعابر. في المحصلة، فإن “استدراج” تلك القيادة إلى اللعبة التفاوضيّة، القائمة على فكرة أن الصراع بدأ عام 1967 فقط، أي مع احتلال الضفة وغزة، والتي تأسست على اختزال الشعب بفلسطينيي الضفة وغزة، واختزال قضيتهم وحقوقهم بمجرد التصارع على بقعة أرض، والتفاوض حول تقاسم السيادة عليها، يخدم استراتيجية إسرائيل في قضم أو تضييع الهوية الوطنية والكينونة السياسية والحقوق المشروعة للفلسطينيين. ولعل هذا مغزى الكلام عن يهودية إسرائيل، وقضم مفهوم الاستقلال والتحرر الفلسطينيين، وإطاحة حق العودة، وتغييب الرواية الفلسطينية المتأسسة على النكبة (1948)، الناجمة عن إقامة إسرائيل، وتشريد معظم الفلسطينيين. الفكرة الأساسية هنا أننا لسنا إزاء دولة استعمارية تحتل دولة أو أرضاً أخرى بجيوشها فقط، فهنا ثمة مجتمع مستوطنين أيضاً، ولسنا إزاء استعمار استيطاني على غرار ما كان في الجزائر، فهناك كان للمستعمرين الفرنسيين وطن “أمّ”، في حين أن 70 في المئة من اليهود في إسرائيل، اليوم، باتوا من مواليدها. أيضاً نحن لسنا إزاء نموذج لنظام عنصري عادي، فهنا ثمة تمييز وفصل، مع اقتلاع أو إزاحة، على أساس ديني وإثني، لتغييب أو تهميش وجود الفلسطينيين، في وضع مركّب لدولة مهيمنة، استعمارية وعنصرية ودينية، في ذات الوقت، تشتغل ضمن منظومات لمؤسسات وقوانين وآليات عمل، سياسية وأمنية واقتصادية. هكذا، تتجلى مشكلة الفلسطينيين في جوانب عدة، أولها، أن العالم عرف التمييز ودانه، بسبب اللون، لكنه يتجاهل التمييز الإثني أو الديني وضد الفئات المهمشة والضعيفة، لأن معظم الدول تمارس هذا النوع من التمييز، بشكل أو بآخر، ولو بطريقة مقنّنة ومشرعنة ومواربة. وثانيها، أن إسرائيل تستغل التعاطف العالمي مع ضحايا “الهولوكوست” اليهود، ما يفسّر حساسية الضغط عليها، علماً أن هذه النظرة باتت تتآكل. وثالثها، أن الخطابات الفلسطينية السائدة ارتكزت على تحرير الأرض، والصراع الوجودي، أي أنها، مع مشروعيتها، قصّرت في مجال طرح قضية الفلسطينيين باعتبارها، أيضاً، قضية إنسانية، وتتعلق بحقوق الإنسان، والقيم العالمية المتعلقة بالحرية والعدالة والمساواة، باستثناء بعض خطابات طرحت في بعض الأوقات فكرة الدولة الواحدة الديموقراطية. وعودة إلى مثال الحلّ الديموقراطي في جنوب أفريقيا، فمع أن ذلك البلد لم يصبح بمثابة “الجمهورية الفاضلة”، لأن آثار التمييز العنصري ما زالت تعبّر عن نفسها، بسبب الافتقار إلى عنصر العدالة، والفجوات بين البيض والسود، في مستوى التعليم والمعيشة ونمط الحياة، فإن هذا المثال أو النموذج أسّس لإحداث تغيير في مستقبل الناس الجنوب أفريقيين. ولعل أهم ما ينبغي الانتباه إليه هو أن نموذجاً كهذا لم يأت، فقط، نتيجة توافر زعامة تتمتّع برؤية وصدقية، كنيلسون مانديلا، بل تأتّى، أيضاً، من نضالات شعب جنوب أفريقيا، ومن تضافر كفاحهم مع المقاطعة العالمية لنظام “الأبارثايد”، فهذان، أي النضال والمقاطعة، هما اللذان فرضا وجود شخصية مثل فريدريك دوكليرك (آخر رئيس أبيض لجنوب أفريقيا) … هذا أولاً، وثانياً، لم يكن في الإمكان إيجاد حلّ، رغم كل المظالم التي خبرها السود طوال عقود، لولا ارتكازه على الحقيقة والمصالحة، وهو أمر غير متوافر في إسرائيل التي تصر على إنكار النكبة، ونفي مسؤوليتها عن الظلم الواقع على شعب فلسطين، ناهيك بإنكارها وجوده، واعتبار أن “حقها” في فلسطين مستمدّ من وعد إلهي! في مقاربة تلك المسائل، يمكننا ملاحظة أن القيادة الفلسطينية لم تنجح في تعبئة شعبها، والبقاء كمصدر إلهام له، بسبب طريقتها في العمل، وغياب الديموقراطية في خطاباتها وبناها وأشكال عملها، وارتهانها لخيارات ثبت إخفاقها، وتلاعب إسرائيل بها. فهذه القيادة، بعد تحولها إلى سلطة، باتت تضيق بأشكال النضال، حتى الشعبية، وباتت حريصة على مكانتها، ومراعاة التنسيق الأمني مع إسرائيل، أكثر من مراعاة حساسيات شعبها. أيضاً، فات تلك القيادة أن إسرائيل تصارعها على الضفة أيضاً، وأنه ينبغي عليها أن تصارعها بدورها على فلسطين كلها، بالأشكال الممكنة والمناسبة، وفاتها أن ثمة إسرائيليين كإبراهام بورغ وعميرة هس وجدعون ليفي وأيلا شوحط وإيلان بابي يعتبرون دولتهم عنصرية إزاء الفلسطينيين، وأن إسرائيل تميّز حتى ضد يهود من الشرقيين، والأفارقة. وعلى صعيد حكومات إسرائيل، فهي تبدو في وضع مريح أكثر من وضع حكومات جنوب أفريقيا، إذ تأسّس مجتمعها على الهجرة والاستيطان ونفي وجود الفلسطينيين، ما يحرّرها من أي ضغط مجتمعي وازن، بل إن ذلك يأتي من اليمين المتطرّف، وباتجاه مزيد من تكريس الاحتلال والتمييز ضد الفلسطينيين والتضييق عليهم، ومصادرة أرضهم وحقوقهم. أما على الصعيد الدولي، فإن الوضع لا يساعد الفلسطينيين، فالولايات المتحدة، رغم كل علاقات الاعتمادية التي تربط إسرائيل بها، لم تحسم أمرها ولا مرة باتجاه الضغط عليها ولو لإلزامها بمجرد وقف مؤقت وجزئي للاستيطان. ومع أن الولايات المتحدة قامت على رفض الانفصال، بحرب أهلية، وعلى إنهاء التمييز العنصري، وتفتخر بكونها دولة ديموقراطية وليبرالية وفيدرالية، إلا أنها لا تبدي أي ميل لفرض نموذجها لحل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، من خلال صيغة الدولة الديموقراطية الواحدة، التي تتأسس من مواطنين أفراد، أحرار ومتساوين، وهذا ينطبق على كل الدول الديموقراطية التي كان رؤساؤها يشيدون بمانديلا، وبالحل الديموقراطي الجنوب أفريقي. الأنكى أن الولايات المتحدة تميل لدعم مطلب إسرائيل الاعتراف بها كدولة يهودية، والضغط على الفلسطينيين لإبداء مرونة في تركها تقضم حقوقهم في أرضهم ومياههم والسيادة على مجالهم الإقليمي. أخيراً، فقد تأسست فكرة الحل الديموقراطي الجنوب أفريقي على “الحقيقة والمصالحة”، لأنه من دون ذلك لا يمكن تأسيس تسوية متوازنة، ولو بالمعنى النسبي، لأن تسويات كهذه لا تُبنى على الغلبة، وموازين القوى، وإنكار الآخر، بل على التكافؤ، والاعتراف المتبادل، وعلى أساس قيم الحرية والعدالة والمساواة، وهو ما لا تبدو إسرائيل مستعدة له، ما دامت قابعة في قلب أسطورتها التوراتية ودولتها الإسبارطية، مع أسوار أو من دونها، ومادامت كل يوم تبدو وكأنها تستعيد عقيدتها كدولة غيتو، محاطة بأسوار، دولة لا تريد التطبيع مع حدودها البشرية والجغرافية، ولا مع محيطها، كشعب لشعب، بتأكيد ذاتها كدولة استعمارية واستيطانية ويهودية، مهيمنة في الإطار الشرق أوسطي، وعلى حساب الشعب الفلسطيني.

مشاركة :