ماجد كيالي يكتب: الإشكاليات الإسرائيلية لعملية التسوية

  • 10/13/2021
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

منذ منتصف السبعينيات، ولا سيما منذ عقد مؤتمر مدريد (1991) ثم عقد اتفاق أوسلو (1993)، اعتقد البعض أن مصير عملية التسوية منوط بالفلسطينيين، أو بالعرب عموما، برفضهم أو قبولهم، في حين ثبت في الواقع أن عملية التسوية مع الطرف الإسرائيلي ليست سهلة أو مسلم بها، إذ ثمة إشكاليات عديدة تعاني منها إسرائيل تجعلها ترفض تلك العملية، أو تجعلها تفرغها من مضمونها. الإشكالية الأولى تتعلق بترابط الاستحقاقات الداخلية والخارجية، فعملية التسوية، بخاصة مع الفلسطينيين، تتطلب تعريف إسرائيل لحدودها وهويتها ودورها في المنطقة، ما يفسر تعقيدات هذه العملية وتحولها، بمعنى ما، إلى قضية إسرائيلية داخلية. فالانسحاب من الأراضي الفلسطينية يقوض خرافة “أرض الميعاد”، كما أن الاعتراف بالشعب الفلسطيني يقوض خرافة “أرض بلا شعب”، وهذا يعني مراجعة إسرائيل لمبررات وجودها وقطعها مع ركيزتين من ركائز الصهيونية التقليدية. ولذلك يبدو النقاش حول عملية التسوية وكأنه نقاش يخصّ الإسرائيليين أنفسهم، أو وكأنه نقاش داخلي لا علاقة للأغيار به. الإشكالية الثانية، تنبع من الطابع التاريخي والسياسي الملتبس للدولة العبرية، فهذه الدولة لم تنشأ بنتيجة التطور الطبيعي للتجمع اليهودي في فلسطين، وإنما قامت بفعل عمليات الهجرة الاستيطانية ـ الإحلالية، إلى فلسطين، ونشأت برغم إرادة أهل الأرض الأصليين، وبفضل عوامل القوة والهيمنة والمساعدة الخارجية. وبسبب من كونها دولة غير طبيعية، من الناحية التاريخية، فإن سعيها لإيجاد أجوبة حاسمة على الأسئلة الجوهرية المطروحة عليها، وضمن ذلك سؤال عملية التسوية، يواجه صعوبات وتعقيدات كبيرة، تختلف كثيرا عنها لدى الدول العادية. الإشكالية الثالثة، وهي مرتبطة بطبيعة النظام السياسي الإسرائيلي، فأي حزب، ولو كان في الحكم، لا يستطيع الحسم بالقضايا المصيرية، وضمنها عملية التسوية (بوضعها النهائي)، بدون إجماع مناسب. لذلك شهدنا أن الطرف الذي يرفض التسوية، والانسحاب من الأراضي المحتلة (أي الليكود)، لم يعمد البتة لضم أراضي الضفة والقطاع. في حين أن الطرف المؤيد للتسوية (أي حزب العمل) لم يحسم أمره بالانسحاب، وتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم في الضفة والقطاع، ما أدى إلى عدم الحسم في هذا الموضوع؛ ومن المعلوم أن إسرائيل استثمرت اللعبة الديمقراطية فيها، للتملص من عملية التسوية والإطاحة بها، من انتخابات مبكرة إلى أخرى. الإشكالية الرابعة، ناجمة عن أن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يكتسب طابعا فريدا في نوعه، فالصراع هنا ليس بين الشعب الفلسطيني والدولة الإسرائيلية المغتصبة أو المحتلة، فحسب، وإنما هو أيضا صراع مع مجتمع هذه الدولة، الذي يتماهى مع أيدولوجيتها وسياساتها. وهذا الصراع لا يقتصر على الجوانب العسكرية أو الاقتصادية أو الأراضي، وإنما يشمل الرموز والرواية التاريخية. وفي الإدراك الإسرائيلي يبدو ذلك كأنه صراع على الأرض ذاتها، وعلى الوجود (يختلف عن الانسحاب من سيناء أو الجولان أو جنوب لبنان). وتدل التجارب بأن المجتمعات الاستيطانية المصطنعة، بخاصة منها المجتمعات الأيدلوجية (القومية والدينية) العنصرية، تحتاج إلى وقت كبير وإلى تجاذبات وضغوطات عاتية وإلى مقاومة مستمرة حتى تستطيع حسم خياراتها، كما تؤكد التجارب بأن البنى والدوافع الداخلية لوحدها تشكل، شرطا ذاتيا لازما ولكنه ليس كافيا لعملية التغيير التي تحتاج، أيضا إلى عوامل دفع وضغط خارجية إلى الدرجة المناسبة، التي تفقد إسرائيل عناصر قوتها أو التي تصل إلى حد تهديد مصالحها، ما يجبر هذه المجتمعات المتغطرسة على مراجعة خياراتها وسياساتها؛ هذا ما حصل في الجزائر وفي جنوب إفريقيا، وهذا ينطبق على إسرائيل إلى حد كبير، كما بينت التجربة، ما يؤكد أن عملية التسوية هي عملية صراعية بحد ذاتها. الإشكالية الخامسة، وتنبع من أن إسرائيل، في رفضها عملية التسوية، أو في محاولتها رسمها بحسب مصالحها وأولوياتها، تستمد قوتها وغطرستها، من تفوقها العسكري والاقتصادي، وانتمائها للغرب، ومن تغطية أقوى دولة في العالم (الولايات المتحدة) لسياساتها، وأمنها وتفوقها في المنطقة. وهذه الإشكالية تنبع، أيضا، من طبيعة إسرائيل التي نشأت في إطار المشاريع الإمبريالية الرامية للسيطرة على المنطقة العربية، وفي الواقع فإن هذه الوظيفة السياسية، بين عوامل أخرى (دينية وثقافية وتاريخية)، أكدت دعم الغرب لإسرائيل وضمان استقرارها وتطورها. وثمة وجهة نظر في إسرائيل مفادها أن عملية التسوية قد تؤدي إلى تآكل الدور السياسي الوظيفي لإسرائيل، وتحويلها إلى دولة عادية، وهو الوضع الذي يحاول حزب العمل تداركه من خلال تأييد التسوية، وبنفس الوقت العمل على تعظيم الامتيازات الإسرائيلية فيها، إلى جانب تقوية مركز إسرائيل في الترتيبات الإقليمية وإدخال تحويلات فيها لمواكبة مسارات العولمة. على ذلك فإن إسرائيل (بوضعها هذا) ستبقى هي العقبة الأساسية أمام عملية التسوية، وأمام الترتيبات الإقليمية الجارية، بسبب عدم نضج أوضاعها الداخلية لمثل هذه العملية المصيرية، وبسبب الانعكاسات الكبيرة للتسوية العملية على هذه الدولة الاستثنائية المصطنعة، من النواحي السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية. والمعنى فإن أزمة التسوية في المنطقة هي إلى حد كبير أزمة إسرائيل ذاتها، كما أنها أزمة السياسة في المنطقة العربية.

مشاركة :