تعجّ الصحافة العربية بشكل عام والكويتية بشكل خاص بكمّ كبير من العناوين التي تعكس مشاعر الإحباط التي خلّفها واقعنا على كل مستوياته التنموية، والاقتصادية، والاجتماعية والتربوية وحتى الإنسانية... فصار العربي يرتشف أخبار الحروب والتفجيرات والمجازر مع قهوته الصباحية بشكل يومي، وأضحى الحديث عن الأزمات والفساد وتعثر التنمية وترهل الإدارة مكرراً. تعبّر الصحافة بعناوين مقالاتها وآراء كتّابها عن حقيقة ما يدور في الأجواء المحيطة، ورغم ما قد يكون لدى بعض الإعلام المرئي والمسموع من أهداف موجّهة أو اتجاهات محددة تبقى السلطة الرابعة بمجملها انعكاساً صادقاً للواقع العام بجموده وحراكه، بإيجابياته وسلبياته، بنقاط ضعفه ومواطن قوته. وفي السياق تعجّ الصحافة العربية بشكل عام والكويتية بشكل خاص بكمّ كبير من العناوين التي تعكس مشاعر الإحباط التي خلّفها واقعنا على كل مستوياته التنموية، والاقتصادية، والاجتماعية والتربوية وحتى الإنسانية... فصار العربي يرتشف أخبار الحروب والتفجيرات والمجازر مع قهوته الصباحية بشكل يومي، وأضحى الحديث عن الأزمات والفساد وتعثر التنمية وترهل الإدارة مكرراً، وأمست عبارات الانقسام والفوضى والتخبط والتردد في اتخاذ القرار توصيفات مستهلكة لواقع مأزوم! وفي المقابل، تشح الأخبار عن مساءلات جدّية للمتورطين، وتندر الأحكام التي يسمح لها أن تعلن "عنوان الحقيقة"، وتتضاءل الى أدنى المستويات وسائل الردع القانونية والأخلاقية والقيمية لكل الموبقات المرتكبة رسمياً وشعبياً. يترافق كل ذلك مع خطة مقصودة لجانب من أهل الحل والربط وبتواطؤ من مرتزقة أهل الرأي لتشتيت التركيز وتعمية الحقيقة وتضييع الآراء وتسويق التبريرات وصولاً الى ما يسمى "شيوع المسؤولية"، وهنا، يختلط "حابل" الحشد والتلميع مع "نابل" الإدانة والمساءلة، والخلاصة: لا إجابة حاسمة عن أي إشكالية مطروحة، ولا عن أي إدانة أو مدين. كثيراً ما يسألني أصدقائي العرب عمّا يجري في لبنان وعلى من تقع مسؤولية تكرار ما يحدث فيه؟ وفي كل مرة أدفع عني عبء الإجابة المستعصية، وربما المستحيلة، بتوجيه سؤال لصديقي الحريص عن واقع ما يحدث في بلده! ردّي بهذا الأسلوب لا يدخل قطعاً في خانة تسجيل النقاط أو تبادل اللكمات، كما لا ينضوي حتماً تحت حالة "الإنكار" المرضية التي تجعلنا راضخين للأوضاع المحزنة ومتأقلمين مع أوجاعها، بل على العكس فإن اتباعي لهذا الأسلوب ما هو إلا محاولة مني للفت الأنظار إلى تشابه الأمراض مع اختلاف العوارض وشدة الألم، وذلك في سبيل التحذير والتنبيه مما قد يكون خافياً وبمحاولة صافية لاستنهاض بعض الهمم. المشكلة الكبرى في وطننا العربي أننا، لأسباب نفسية وتراكمات تاريخية، نكابر في مسألة الإقرار بالأزمات البنيوية التي تهدد أمننا وتعصف بأماننا وتهزّ اقتصادنا وتفتك بوحدتنا الوطنية فتقلق حاضر مجتمعاتنا وتؤرق مستقبل أجيالنا، وإذا ما أقررنا بها- تقليداً أو ترديداً أو ربما مصادفة- تحيدنا العنصرية الفظّة والانتمائية الهشّة عن الاعتراف بمسؤولياتنا الجماعية والفردية عن جزء منها، وتأخذنا حميتنا إلى تقاذف الاتهامات بالوقوف وراء أسبابها، فبتقى الجروح الكبرى مفتوحة، وتبقى الأسئلة المحيّرة مطروحة... فهل ما يجري في لبنان هو نتيجة حتمية لتراكمات الحروب والطائفية والنظامين السياسي والاقتصادي المتّبعين منذ تأسيس دولة لبنان الكبير أم هو مسؤولية القوى السياسية والحزبية والطبقة الحاكمة حالياً؟ وهل الأزمات السياسية المتكررة في الكويت يتحمل مسؤوليتها الأداء النيابي الشعبوي أم التقصير الإداري المزمن؟ هل ما يحدث في السودان صراع مشروع للوصول الى السلطة أم استبدال تقليدي للبزة العسكرية بياقة الحكم المدني؟ هل ما تشهده تونس هو نتيجة منطقية لربيعها؟ هل ما يحدث في مصر من نمو اقتصادي هو خطوة مدروسة وثابتة أم أزمة ديون مؤجلة؟ هل ما يعانيه كل من العراق وليبيا وسورية واليمن هو مخطط "إمبريالي" و"مؤامرة كونية" ضد شعوبنا أم نتيجة ما جنته "براقش على نفسها"!؟ من المسؤول عن ارتفاع حدة الخصومة بين المغرب والجزائر؟ من الجهة المدينة بزرع الشرخ بين الإخوة الفلسطينيين وتعميق هوته؟ ما مصير التنمية والاقتصاد والرفاهية في دول الخليج العربي في ظل النضوب المتوقع للنفط وتذبذب أسعاره؟ أين جامعة الدول العربية من كل أزمات العالم العربي وانشقاق الصفوف وتفكك الأواصر؟ والسؤال الأهم: هل النسبة الأكبر من المسؤولية تقع على عاتق الشعب الخامل والمحبط أم على المسؤولين العاجزين تارة والمتآمرين طوراً والفاسدين أو الجاهلين أطواراً أخرى؟ يقول المثل الكويتي "اللي بالجدر يطلّعه الملّاس"، وقد شاع في تاريخنا الإسلامي مقولة "كما تكونوا يولّى عليكم"، يطالب معظمنا بمكافحة الفساد ومنّا الراشي ومنّا المرتشي، نتباهى بحب الله ونتقاتل زوراً باسمه، نعتزّ بأدياننا ونتنافس بالخروج عن تعاليمها، نأبى الارتهان للخارج ونتفاخر بتأشيرة سفر لبلاد "الكفر والالحاد"، نطالب السياسيين بالإصلاح ونحن الذين ننتخبهم ونصفق لهم ونرفعهم على أكتافنا، نتغنى بالحرية ونقرّ بالسرّ وبالعلن أننا قوم لا يحكم الا بالـ"عسكرة"! إن أول مؤشرات الحلول لأزماتنا يتمثل بالاعتراف بها، ومن ثم توصيفها بشكل موضوعي ودقيق بلا أي تحزّب ودون أي انحياز ومن غير أي تمييع للمسؤوليات، الأمر الذي يؤدي حتماً الى تلمس خطورة عوارضها وتحديد مسبباتها، وصولاً الى اتباع خطة علمية مدروسة لعلاجها وتبديد أي احتمال لتفشيها أو تفاقمها والتحصن من عدم تكرارها، وقبل كل ذلك معاقبة المسؤولين عن صنع أو نشر الوباء الناقل للعدوى فيها. * كاتب ومستشار قانوني
مشاركة :