يتزامن خريف العام 2015 مع ذكرى حدوث إنجاز تاريخي في الفيزياء المعاصرة. فقبل مئة عام، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1915، كتب عالِم الفيزياء آلبرت آينشتاين معادلاته الشهيرة في النسبيّة العامة General Relativity. ويتضمن الاحتفاء عالميّاً بمئوية آينشتاين مجموعة من النشاطات تشمل سلسلة من المحاضرات يلقيها علماء بارزون، احتفالات مدرسيّة وعرض نماذج للثقوب السود مصنوعة بتقنية المحاكاة الافتراضيّة Virtual Simulation للكومبيوتر وغيرها. وخلال مئة عام، باتت النسبيّة العامة نظريّة علميّة كلاسيكيّة تملأ الكتب، إلا أن فكرتها المركزيّة القائلة بأنّ الزمان والفضاء متداخلان ويتأثران بوجود المادة، تبقى فتيّة في أذهان العامة، بل في أذهان العلميين أيضاً، بمعنى أنها لا تزال صعبة الهضم ويصعب قبولها واختبارها، إذ نمت تلك النظريّة وأُرسيَت عبر «اختبارات» ذهنيّة أجراها آينشتاين في دماغه، سمّاها لاحقاً «اختبارات عقليّة» Thought Experiments. وتمركزت الاختبارات على مفهوم الضوء: «ماذا يحدث لو أن الضوء رُصد من قبل شخص يتحرّك بسرعة عاليّة جداً، خصوصاً أن تكون قريبة من سرعة الضوء نفسه؟ ماذا يحدث حين تمر أشعة الضوء في حقل جاذبيّة قوي»؟ تعتبر النسبيّة العامة الضوء في أساس العلاقة بين المكان والزمان، واستطراداً، انبثق مفهوم من مُكَوّن سمّاه آينشتاين «الزمان- المكان» Time- Space (اختصاراً «زمكان»)، فصار عنصراً جديداً في الفيزياء المعاصرة التي باتت تنظر إلى الكون باعتباره يمتلك 4 أبعاد هي: الطول والعرض والعمق والزمان. تشرح النسبيّة العامة ظواهر متعلقة بالجاذبيّة كالسقوط الحر للأجسام ومدارات الكواكب. وامتلأت المئة عام المنصرمة باختبارات عن صلاحيتها وصدقيّتها، ما يعني أن النسبيّة العامة هي نظريّة علميّة عن الجاذبيّة. وفي القرن السابع عشر، وصف عالِم الفيزياء والرياضيّات السير إسحاق نيوتن الجاذبيّة بأنها قوة غير مرئية تعمل بصورة مستمرة بين الأجسام. ولا تزال قوانين الحركة التي وضعها نيوتن معتمدة علميّاً في الاختبارات والمسائل اليومية للناس، لأن حركة الأجسام تتوافق مع قوانين نيوتن، طالما بقيت تتحرك بسرعة تقل كثيراً عن سرعة الضوء، خصوصاً عندما يكون حجمها تقليديّاً. واستطراداً، تضحي تلك القوانين أقلّ دقّة حين يتعلّق الأمر بظواهر تتداخل فيها الجاذبيّة مع الضوء كـ»الثقب الأسود» Black Hole، أو أجسام فائقة الضخامة كالمجرّات والنجوم الهائلة الحجم وغيرها. استطاع آينشتاين تقديم معادلات جديدة كليّاً عن ظاهرة الجاذبيّة، خصوصاً علاقتها مع الأبعاد الأربعة للكون والحركة القريبة من سرعة الضوء، مشيراً إلى أنّ الجاذبيّة في الكون هي أمر نسبي يرتبط بسرعة الأجسام الفلكيّة. ويبقى الضوء مركزياً في اختبارات نظريّة النسبيّة العامة. ومثلاً، هناك ظاهرة تُسمّى «الانزياح نحو الأحمر» Red-Shift. إذ أن موجات الضوء تتباطأ وتتجه نحو الطيف الأحمر، إذا مرّ في حقلٍ قوي الجاذبيّة، وهو أمر توقعته نظريّة النسبيّة العامة، وصدّقت عليه اختبارات دقيقة منذ العام 1959. ويستفاد من تلك الفكرة في نظام تحديد المواقع على الأرض من الفضاء («جي بي أس» GPS) الذي بات الناس يستعملونه يوميّاً. شهادة إيدنغتون في 1919، قدّم عالِم الفلك البريطاني آرثر إيدنغتون إثباتاً أولاً عن مقولة النسبيّة العامة بأن الضوء يتأثر بجاذبيّة الأجسام الفلكيّة الثقيلة. وأثناء كسوف كلي للشمس، وثّق إيدنغتون حدوث تغيير ظاهري موقّت لموقع أحد النجوم الضخمة البعيدة عن الأرض، بمعنى أن الضوء الواصل من النجم انحرف تحت تأثير جاذبيّة الشمس. وعلى رغم أن نيوتن تحدث عن تأثّر الضوء في جاذبيّة الأجرام الفلكيّة الثقيلة، إلا أن حسابات إيدنغتون بيّنت أن المعادلات التي وضعها نيوتن عن تلك الظاهرة لم تكن دقيقة، ومعادلات آينشتاين تفوقها دقة بكثير. ومنذها، لمع اسم آينشتاين عالميّاً. باتت ظاهرة انحراف الضوء تحت تأثير الجاذبيّة القويّة، وسيلة ناجحة يستخدمها الفلكيون في اكتشاف الكون. وسمّيت الظاهرة «عدسة الجاذبيّة» gravitational lens، تشبيهاً لها بوظيفة العدسة الزجاجيّة. ثقوب سود المفارقة أن التوقّع الأكثر غرابة لنظريّة النسبيّة العامة لا يتعلّق بالضوء، بل بغيابه، إذ تمثّل الثقوب السود أجساماً فلكيّة لها وزن ضخم وكثيف تماماً، فلا يستطيع شيء الإفلات من قوة جاذبيتها، ولا حتى الضوء، ما يجعلها ثقوباً سوداً. وفي العام 1919، كان العالم الرياضي الألماني كارل شوارزشيلد، أول من تحدث عنها استناداً إلى نظرية النسبيّة العامة. وحاضراً، يرصد العلماء الثقوب السود في الكون بطرق غير مباشرة، بل يحددون مواقعها وكتلها وشدة حقول الجاذبيّة فيها. وعلى مستوى كوني أوسع، تشكّل ظاهرة «الانزياح نحو الأحمر» للضوء الآتي من مجرّات بعيدة ونجوم عملاقة منفجرة، أداة أساسيّة تتيح مراقبة الكون ودراسته. وبفضل ظاهرة «الانزياح»، عرف العلماء أن الكون في توسّع مستمر، بمعنى أنّ المجرّات تتباعد عن بعضها بعضاً. وكذلك علموا أن التباعد بين المجرّات يتسارع باستمرار، الأمر الذي دعا العلماء للقول بوجود شكل غير مألوف من أشكال الطاقة (سمّوها «طاقة سوداء» Dark Energy) تتسبّب بجاذبيّة سلبيّة تنافريّة تساهم في تباعد المجرّات عن بعضها بعضاً. المتحجّرات الضوئيّة ثمة رابط آخر بين الضوء ونظريّة النسبيّة العامة يتعلق ببداية الكون. فاستناداً إلى نظرية النسبيّة العامة، ولِدَ الكون من انفجار أول هائل ترافق مع كميات لا نهائيّة من الطاقة، كما أنّ آثار الانفجار لا تزال متلبثّة في الأفلاك البعيدة! وعمل الفلكيّون على قياس ما يسمّى بـ»موجات الميكروويف في خلفيّة الكون» Cosmic Microwave Background (تحمل أيضاً اسم «المتحجرات الضوئية»)، وتشبه الصدى الكهرومغناطيسي لذلك الانفجار. وأثبتوا أن النسبيّة العامة تتيح أيضاً تقدير عمر الكون منذ الانفجار الأول («بيغ بانغ» Big Bang)، ويقدّر ذلك بقرابة 13.78 بليون سنة. وفي العام 1965، اكتشف الباحثان الأميركيّان أرنو بنزياس وبوب ويلسون، «موجات الميكروويف في خلفيّة الكون» من طريق... الصدفة! وفي 2009، أطلقت وكالة «ناسا» مجسّاً كونيّاً سمّي «بعثة بلانك» الفضائية، لإنجاز قياسات دقيقة لتلك الموجات، والتثبّت من عمر الكون.
مشاركة :