يقدم د.سيد الإمام لترجمته لمسرحية الشاعر والمسرحي الإنكليزي أوسكار وايلد "امرأة السوق السوداء في.. زوج مثالي" التي نشرت وعرضت عام 1895 بقراءة تضيء المجتمع الإنكليزي خاصة والأوروبي عامة وقضاياه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما تشهده من تحولاته، رابطا في تحليله بين شخصيات المسرحية وما يجري في المجتمع البرجوازي، طارحا صورة كلية عن مجتمع النص، حيث يدور النص حول الابتزاز والفشل السياسي المرتبط بالمصالح الخارجية للبعض مثل مشروع قناة بنما، وتلمس مواضيع أخرى كالشرف والمبادئ الاجتماعية. يؤكد الإمام أن السياق التاريخي الذي يحمل الأطر المرجعية القادرة على فهم وتفسير الدلالة الكامنة في دراما "زوج مثالي"، لم يكن مفترضا من خارجه بوعي الفترة التي أنتج فيها وقدم خلالها، ولكن النص يستوعبه صراحة، أكثر مما يحيل إليه، في الفعل الرئيسي الذي يجري "هنا ـ الآن" على المسرح بمثل ما يستوعبه في تفجير "القصة الخلفية" التي جرت "هنا ـ الماضي" حيث تتشكل الشخصيات وعلاقاتها الممكنة، وهنا وهناك تتشكل وقائع لا تتصل ببناء شخصيات الدراما فقط بل وتتصل بتاريخ تطور البرجوازية عموما بالشرق الأوسط من ناحية وأمريكا الشمالية والجنوبية من ناحية ثانية، وهو التاريخ الذي يقترن في الوقت نفسه بظاهرة الاستعمار، ويشي بعمليات النهب المنظمة التي أسست الحضارة والمدنية الأوروبية. ويرى الإمام في قراءته لـ "زوج مثالي" التي صدرت ترجمتها عن دار سنابل أن الأفق الدولي من رؤية العالم وقت كتابتها ونشرها ثم عرضها على مسرح "هاي ماركت" الملكي في 3 يناير/كانون الثاني 1895، يشكل جزءا لا يتجزأ من البنية الدلالية الكامنة في النص، فيندمج بالقصة الخلفية التي تصب في الفعل الدرامي، بما تنطوي عليه من فساد يرافق الطموح، فتظهر شخصية السيدة "تشيفلي" التي استثمرت جزءا كبيرا من ثروتها في مشروع شق قناة بنما، كي تحاول الضغط على "سير روبرت" وكيل وزارة الخارجية ليغير رؤيته التي ينتوي أن يقدم بها تقريره إلى مجلس العموم، بما يثني على مشروع القناة، ويدفع إلى استمراره فتتحقق مصالحها مع الرفاق الذين تتحدث باسمهم، وبذا تستحثه إلى إعادة إنتاج فساده القديم الذي سوغ له تسريب سر حكومته بثمن، بفساد جديد يخفي تقرير لجنة المفوضين ويضلل الرأي العام عن دلالاته الحقيقة، فإن لم يخضع هددته بإفشاء أسرار أصول ثروته الخاصة. ويضيف "هكذا يتشكل الفعل الدرامي بصفته "ابتزازا" يهدد المكانة والثروة ويشوه السمعة ويهدد حياة "روبرت" وزوجته "غرترود" التي تبدو بالغة العناد في تماسكها الأخلاقي. وقد استعار الفعل أحد الحيل الفنية التي تكونت في الميلودراما في صيغتها جيدة الصنع، واستقرت في المدرسة الواقعية والطبيعية، حيث الاعتماد على نضج خمائر النكد الكامنة في الماضي وإيقاظ أفاعيها للتهديد بها، واستثمارها في تحقيق منافع جديدة. ولما كانت هذه الحيلة/التكنيك، تستمد قوتها من عناية الشخصية الأصيل بالهروب الدائم من الماضي ومما اقترفته من جرائم، فإن الحيلة نفسها تقترن لزوما باستعداد الشخصية لأن تخضع ـ إن آجلا أو عاجلا ـ للابتزاز، وفي السياق نفسه تتولد أفعال "المساومة" وتحسين شروط الإخضاع أو تبادل المنافع أو تحين الفرصة لقلب اتجاه حركة الابتزاز نفسها، وهو ما يحدث في النهاية حين يكتشف "لورد جورنج" أن السيدة "تشيفلي" سارقة الدبوس ذي الياقوتة الحمراء من بنت عمه، ويوشك أن يدعو لها البوليس، ويجردها من الرسالة التي تبتز بها صديقة "سير روبرت". ومن ناحية أخرى فإن الحيلة التكنيكية تكفل إمكانية إعادة الماضي في الحاضر، بما يؤكد أن البنية الدرامية تقوم على فساد الذمم والأخلاق والثياب الداخلية الملوثة، من وراء السمعة الطيبة، التي تحظى بالاحترام والتقدير، وتتفتح أمامها أفق المستقبل بأسباب الرقي وتوسيع رقعة النفوذ. ويرى الإمام أن الفعل الدرامي في "زوج مثالي" يكشف عن حضارة أوروبا التي تقوم على السلب والنهب وفساد الذمم والأخلاق على صعيد العلاقات الدولية والمشروعات الكبرى، تحت أقنعة الدبلوماسية، ومبادئ السعي إلى إشاعة التمدن والتعمير وتسخير الجغرافيا لإرادة الإنسان، والتبشير بالمسيحية وتبادل المصالح، وإعلاء قيم الوطنية والائتمان على أسرارها، غير أن هذه البنية الكبرى لا تلبث أن تتردد وتتكرر في بنيات أصغر على الصعيد الاجتماعي فيما يشير إليه النص نفسه من أسر، ولو بشكل عابر، فتتشكل بنية كلية مهيمنة، وإن تنوعت عليها التفاصيل، فتبدو وقد اندمجت فيها العلاقات الإنسانية داخل السوق، سواء بجانبه العلني الأبيض، أو جانبه السري الأسود، فمن اللحظة الأولى تكشف الحفلة التي يقيمها "سير روبرت وزوجته جرترود" في البيت، عن أمثالها في بيوت أخرى، بما تنطوي عليه من تناول طعام واستماع إلى الموسيقى أو غناء وممارسة الرقص، وغير ذلك من أسباب المتعة وإزجاء الوقت، وإن قصدت أن تكون منتدى لتداول الآراء في الشأن السياسي. ومن ناحية ثانية، تكشف عن وجه آخر، بوصفها سوقا علنية لعقد صفقات الزواج، وسوقا سوداء لعلاقات مريبة أو ملتبسة، تعالج الخلل في العلاقات الشرعية المشبعة بالشقاء، وذلك باصطياد العشيق/ العشيقة. ويوضح أن الجميلتين "أوليفيا" أو السيدة "باسيلدون" و"مارغريت" أو السيدة "مارشمونت"، بجانب السيدة "ماركبي" تمثلن نموذج امرأة الأرستقراطية القديمة التي انحصرت في أنوقتها.إنه النموذج الذي كره التعليم والتثقف، وأبدى نفورا منه، وقد يشير إلى أنه حين اضطر إليه لم يكن يفهم منه شيئا، بل قد يراه ضارا بالنساء، ويهبط بهن إلى مستوى بنات الطبقة التجارية. وحين توصي مضيفة الحفل "غرترود" بضرورة أن تجد المرأة هدفا لها في الحياة، لا تجدن معنى لهذا الهدف إلا أن يكون بحثا عن عشاق أو رفاق من الرجال. ولكن يبدو أن هذا النموذج بلغ مرحلة من الوجود في السوق يعاني فيها الركود أو الكساد فيطول بحثه عن الرجل بحثه عن الرجل الذي يقبل عليه ويجدر به، ولا يجده. ولا غرو أن يتغلغل فيه ـ أثناء الحفل ـ شعور الملل أو الضجر، من طول انتظار الصيد، فإن وجده يفاجأ بأنه يكثر الحديث عن زوجته أو عن النموذج نفسه، مما يعمق شكوى الملل من ناحية وتقييم الذات ـ من ناحية أخرى ـ بوصفها ضحية. ويشير الإمام إلى أن تقييم هذا النموذج لذاته كضحية، يتكرر من قبل في تقييمه لوضعه في الحياة الزوجية، التي تعتمد على مفهوم الصفقة في السوق العلنية، إذ تخلو بالضرورة من الحب أو التوافق والانسجام بين الطباع ودوائر الاهتمام، مما يجعلها في النهاية حياة طاردة بحد ذاتها، إلى السوق السوداء، فدوق "ماربيروه" ـ فيما تومئ السيدة "ماركبي" إلى زوجته الدوقة ـ مازال ضعيف العقل، ويبدو أنه أورث هذا الخلل عن أبيه الروحي، ولا حيلة له في الشفاء منه، مما يرهص ـ في الوقت نفسه ـ بمشاعر الرثاء نحو زوجته. أما زوجها، السير "جون" فتغير مزاجه بشكل لا يطاق منذ اقتحم بجدية دنيا السياسة في مجلس العموم، ويزداد سواء كلما أراد المجلس أن يكون نافعا أو مفيدا. ولا يكاد يختلف الأمر مع السيدة "باسيلدون" التي تحوطها السياسة ليل نهار، وتبدو مضطرة إلى إعلان الابتهاج بها، مع أنها تضيق بها، ولا تفهم كيف يحتمل الرجال التعساء تلك المناظرات الطويلة في مجلس العموم. ويتابع أن الصورة الكلية لمجتمع نص "زوج مثالي" يكشف أن السيدة "تشيفلي" تقع في المركز، سواء في الماضي أو الحاضر، وتبدو مفصلا، يتصل بجميع الشخصيات، ويشدها إليها. فهي وإن كان هدفها الرئيسي السير "روبرت شيلترن" بالصفة الجديدة التي جاءت من فينا إلى لندن لتعرضها عليه، إلا أنها أيضا وثيقة الصلة مع البارون "آرنهيم" الذي أوصى لها بجانب كبير من ثروته، وكان داعيا لإنجيل السلطة والمال، الذي أثر في تكوينه وحياته. كما أنها في صباها كان زميلة دراسة لزوجته "جرترود" التي تعد نقيضها الذي تمقته، وتتوسل بمعرفة السيدة "ماركبي" لتدخل إلى بيته فتثير أعماق نساء الطبقة الأستقراطية لتكشف عن نفسها. ومن ناحية ثالثة ربطتها علاقة حب ومشروع زواج مع اللورد "جورنج" الذي تربطه علاقة صداقة بأسرة "شيلترن"، وعلاقة حب بابنتهم "مابيل"، وتربطها بأبيه "كافرشام" ـ في الوقت نفسه ـ علاقات عمل، فضلا عن علاقة الانتماء الطبقي. ويلفت الإمام إلى أنه بهذه الروابط يتشكل النسيج الدرامي، بما يربط التكوينات الأسرية، ويدمج التفاعلات السياسية بالاجتماعية بالاقتصادية بالمشاعر الإنسانية، ويجعل السيدة "تشيفلي" نموذجا حيويا في مساحة التقاطع بين السوقين: العلنية والسرية السوداء. إن السوق السوداء تبدو في كل الأحوال بمثابة الأفنية الخلفية للسوق العلنية في السياسة والاجتماع والاقتصاد، فيسترها العرف السائد نفسه، ويغمض عينيه عنها، ولو مؤقتا، باعتبار ما يجري تسلية. ولكن من ناحية ثانية يتحين العرف السائد نفسه فرصة أن يختل توازن اللاعبين في السوق، ويفشلوا في أن يبقوا على السرية، لينسج من أفعالهم فضائح يتسلى بها أيضا، أو يجعلها موضوع ابتزاز لعقد صفقات جديدة. والواضح أن النموذج يركز على الجسد/ الأنثى بوصفه رأسماله ومصنعه الذي يمكنه أن ينتج نسخ هوية "العشيقة" في إصدارات متتابعة إلى السوق، فيجمع بداخله كافة عناصر معادلة قوى الانتاج: المادة الخام، وسيلة أو أداة الانتاج، وقوة العمل الواعية بحاجة السوق إلى الأنثى القادرة على الغواية والإغراء وإشباع الرغبات بأعلى درجة كفاءة ممكنة. وبالتبعية يمكنه الترويج لنفسه إما لإمتاع ذاته وتعويض خسائره من السعادة في السوق الشرعية. ويرى أنه بغض النظر عن المصير الذي انتهت إليه أو يمكن أن تنتهي إليه امرأة السوق السوداء على نحو ما تتجسد في السيدة "تشيفلي" فإن أزمتها الذاتية لا تعدو أن تكون ترديدا لأزمات كافة الشخصيات الأخرى "جرترود، شيلترن، و"جورنج".. إلخ، إنها أزمة تتوالد بظهورها وتتخلق في السوق نفسه الذي ينطوي عليه مجتمع النص، ويستدعي الوعي السائد بما يفترضه من براءة أخلاقية، وما يمكن أن يغفره أو يدينه من آثام. ويؤكد الإمام أنه لو أن رؤية أوسكار وايلد للعالم تميل إلى إدانة نساء السوق السوداء باعتبارهن كذلك، لأدان مع "لورا" كل نساء الطبقة اللائي تلهين على شطآنه، ويمكن أن تنجرفن إلى بحاره المتلاطمة في أي لحظة مواتية، بإصدار أو آخر، مشحون بالدوافع والمبررات التي تسوغه. ولكن يبدو أن الإدانة تتوقف عند فكرة الاعتداء على مال الغير، واستنكار أن للسمعة أيضا ثمنا، ينبغي أن يدفع، لتخرج بيضاء من غير سوء من مغسلة البر والإحسان. ولا غرو أن تأتي النهاية الدرامية متسقة مع الرؤية نفسها، فإن الرعب الذي سببته "غروترد" بما فيها من صرامة أخلاقية، كان لابد أن يزول بلينها، وبإدراك أن غفرانها لزوجها وبقائها بجانبه وحرصها على بيتها، واجب أخلاقي، وأن ذلته التي كادت تأخذه بها محض نقطة ضعف عابرة، تولدت عن حبه لها. ولعلها آمنت أنه سدد كل فواتيرها كاملة ولا سيما بموقفه الأخير في مجلس العموم الذي وضع فيه رقبته تحت السكين، ولتفرح بعد نجاته التي يبشر بها "جورنج". كيف شاءت. أما الرسالة التي عرفت "لورا" ـ في ضربتها الأخيرة اليائسة ـ كيف تصل بها إلى "السير روبرت" لثير شكوك زوجته، فالأفضل الاعتراف بحقيقتها وملابساتها، ومن الأفضل أن يغسل "روبرت" دلالاتها المشينة في ثقته المطلقة فيها. ويختم أنه ربما كان من العسير في ظل هذه الأجواء من سيادة الحقائق وأخلاق الرحمة والتسامح والغفران، أن ترضى الزوجة المثالية "غروترد" أن يعتزل زوجها المثالي "السير روبرت" الحياة ابتغاء مرضاتها، ويرفض الترشح للمنصب الوزاري، ثم يعيش بقية عمره معها، وفي صدره غصة منها، لأنها وأدت تلك الخطور في سلم طموحه، فإذا كانت النعمة الختامية زواج "مابيل" أخت "روبرت" من "جورنج"، فهي أيضا تولي "روبرت" الوزارة، وفي جبينه ندبة جد صغيرة، لا يراها غير المتفرج على "زوج مثالي"، شريطة أن يزيل عنها مسحوق البر".
مشاركة :