في نهاية مؤتمر برلين 23 فبراير/شباط 1885، كانت حفنة من الدول الأوروبية تقاسمت أفريقيا فيما بينها دون هوادة، لتبدأ في نهش الأرض والإنسان، وقد ألهمت الكونغو بشكل خاص الروائي الفرنسي بول كافجاك روايته "الجلاد الصيني" التي ترجمتها هدى خليل،صدرت عن دار العربي، ليقدم لنا قصة على شكل نزول إلى الجحيم، مليئة بالتحولات المظلمة، بلغة سردية محمومة كاشفة عن جنون الهوس الاستعماري وعنفه. وأيضا مليئة بالعواطف القاتلة، والحب المتسامي، والكوارث الحميمة والجماعية، تنشر الظلام سحرها الأسود بقوة. جزء كبير من نجاحعا يكمن في حقيقة أن جميع خيوط القصة تنتهي بالتقارب في نهاية متفجرة. على رأس هذه الرواية المظلمة ذات الكتابة التي لا تشوبها شائبة، والموازنة الدقيقة بين العمل والعمق، والظلم والانتقام، يبقينا بول كافجاك في حالة تشويق من البداية إلى النهاية. في صباح أحد أيام سبتمبر/ايلول 1890، ينطلق المساح البلجيكي "بيير كلايس"، بأوامر من ملكه ليوبولد الثاني ملك بلجيكا لترسيم جزء من الحدود الشمالية لدولة الكونغو الحرة، من ليوبولدفيل باتجاه الشمال يسترشد "بيير كلايس"، بالنجوم وبعض الأدوات البدائية فقط، ويجد نفسه متجهاً إلى عمق الأراضي البرية في مهمة لرسم صورة دقيقة لما كانت السلطات الأوروبية تسمي "تقدم". يصعد على متن سفينة "فلور دي بروج" ويسافر عبر نهر الكونغو، برفقة عمال من البانتو وفنان وشم صيني كبير اسمه"شي شاو"، وهو أيضًا جلاد سابق ماهر في فن تعذيب وتقطيع البشر المروع. وكانت طريقة التعذيب التي كان يمارسها تتمثل في أخذ شرائح رفيعة من عضلات وأعضاء الشخص المعذب، مخدرًا بالأفيون، حتى الضربة النهائية. إنه فن التقطيع الذي يؤشر ويردد بوضوح هنا النهب الدقيق لأفريقيا الإنسان والأرض والثروات. يتنبأ الجلاد "شيشاو" بمستقبل كل شيء، ويمكنه رؤية الفظائع التي سيجلبها الاستعمار، وهو يعلم أنه سيحب المساح البلجيكي من كل قلبه. "جمعية الأيادي المقطوعة" هي قصة تقطيع الأوصال البشرية والجغرافية. يقول الراوي "لم يسبق لنا أن رأينا، بهذا الحجم، مثل هذا التنظيم العقلاني والمهتم للموت. في كل ركن من أركان البلاد، كان مرؤوسو هذه الدولة القاتلة والعنصرية، الذين بدأوا ما يمكن أن يصل في النهاية إلى انتحار حضارتهم، يقتلون مئات الآلاف من أرواح الأفارقة التي أرادوا نسيانها في ضباب هذيانهم. اختلط الدم والطين بالأرض مثل هذه الحشرات التي تحب بعضها البعض بعناق ميكانيكي غاضب، يلتهم كل منها رقاب الآخر، وأعينها مفتوحة على الموت، أعماق الحياة المستحيلة". بتتبع تاريخ عائلة كلاس ووصف العنف في الكونغو في الملك عهد ليوبولد الثاني، يرسم كافجاك صورة أصلية ومؤثرة لسفك الدماء في العالم الغربي في القرن التاسع عشر. ومن جراء ما يرى من وحشية أهوال النظام الاستعماري ينتهي الأمر بـ "بيير كلايس" بمطالبة شي شياو بتقطيعه، تمامًا كما قام بتقطيع القارة الأفريقية. يقبل شي شياو الذي كان دائمًا قادرًا على قراءة المستقبل في جراح العالم، ويعرف شيئين: سيحب "بيير كلايس"، وسيموت هو وكلايس في نفس الوقت. يفتتح كافجاك روايته موضحا "ظلَّ "هنري مورتون ستانلي" يضرب رجلًا حتى قتله. صبي حمَّال، ربما هو في الخامسة عشرة من عمره، أصله من الكونغو من مدينة "ميندولي"، ومُعَيَّن في مدينة "ماتادي". لا يوجد وقت للفهم، فقد تناثر جلده الرقيق في كل مكان. غُمِرَتِ الحشائش العالية بأصوات الصيحات والدموع والدماء وردية اللون. استغرقت الكلاب بعض الوقت قبل أن تترك الأعضاء النحيلة الجامدة. لقد أخافت الكلاب الصبي أكثر مما أخافه الموت. لطالما أخافته الكلاب. تُرِكَتِ الجثة هنا. استأنفت القافلة سيرها. غُطِّيَ نحو خمسمائة وستين كيلومترًا - وفقًا لتقديرات "ستانلي" - من هذا اللغز الإفريقي منذ بداية البعثة. يصعب على المرء تخيُّل درجة الكراهية التي من شأنها أن تُحفِّز تقدُّم الرجال في أدغال إفريقيا الاستوائية في عام 1883، حين وعد ملك بلجيكا "ليوبولد الثاني" بمكافأة أيضًا لأولئك الرجال. كانت كراهية بيضاء، كراهية مَرضِيَّة كمن يرتجف في الحرارة التي لا تُطاق، كراهية مليئة بالأمراض، كريهة، ككراهية الجثث النحيلة تجاه الحشرات الرطبة. ويضيف "كراهية بيضاء، متعطشة إلى البلد الذي تكرهه ككرهها حياتَها الخاصة، كراهية شديدة، تشبه الفاحشة، كراهية تُسبِّب الارتجاف من شدة الإثارة. لم يكن لـ"ستانلي" سبب معين لقتل هذا الحمَّال. فـ"ستانلي" مستكشِف. اكتشف "ستانلي" "ليفينجستون". "ستانلي" مغامرٌ. "ستانلي" مشهور عالميًّا. "ستانلي" وحش. "مينوتور" يخوض متاهته، ويطالب بالجثث والأراضي، ومجده وقوته يتزايدان. فـ"المينوتور" هو وحش الملك. والملك هو وحش العالم. أما العالم فيلتهم أطفاله. هكذا بدأت قصة الغرب وهكذا ستنتهي. في دول إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، في عام 1880، كان هدير "ستانلي" المليء بالكراهية ينبئ بانهيار قادم وبوفاة بالملايين. القصة الآتية ليست قصة ضحايا استعمار إفريقيا، وإنما هي قصة الناجين منهم. قصة انتحار أبيض في عالم يفتقد الإله. قصة شاب منسي في متاهة من الكراهية والعمى: قصة تفكيك وتشويه "بيير كلايس". مقتطف من الرواية رحلة "كلايس" الاستكشافية الأولى سبتمبر 1890 - أبريل 1891 "الوداع يا حبيبتي"... لم يكن "ماسون" ولا "ديكسون"، ولكنه ما زال مسَّاحًا. قسَّم مؤتمر "برلين" إفريقيا إلى ما يُشبِه عدل الملك سليمان وحكمته في التوراة، مضافًا إليه بعض التعديلات ليواكب الذوق الحديث المليء بالشراسة.ومع غياب الشفقة الثي تمنحها الأم، قطَّع أصحاب الجلالة – الغرب - اللحمَ وهو حي؛ هكذا كان التعامل مع الأراضي الإفريقية في عام 1885. ومع ذلك، بقي سؤال عملي: كيف يمكن ترسيم الحدود بين تلك المساحات الهائلة.. حدود قارة غير مرئية للعين البيضاء؟ لم يطرح مؤتمر "برلين" سوى تقسيم نظري للأراضي الإفريقية، وقرر القواعد الغامضة والشرهة التي بموجبها ستُشوَّه القارة. شرعت إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا وألمانيا دون تحفظ في الالتهام والاستحواذ على الرجال والنساء والنباتات والمواشي والأراضي والمياه والتربة والسماء، كل شيء كان مباحًا سلبُه من هذا الغريب الغني. حضارة برجوازية بأكملها، ذكورية ومريضة، مهووسة بالإنتاج، وقد استُنزِفَت طاقتها من العمل المفرط، كل جمجمة منها مريضة بأحلام فرضت نفسها بإثارة وبعنف في خيال يرى الأرض كأنثى خصبة، خيال يمثل حواء سوداء جديدة متاحة للاغتصاب في الليل الأبيض، بلا هوادة، مسببًا لها نزيفًا يهدر كنوزها. مستهزئًا بحنانها الأمومي من خلال الصراخ في الموت الشاحب على وجهها الذي يشبه وجه الإلهة الخامل. أبحر رجال شرسون في أنهارها وعبروا صحاريها وحشائش السافانا وغاباتها ثم التقوا. في ربيع عام 1887، دارت هذه الأحداث عند الحد الشمالي لدولة الكونغو الحرة الجديدة، وهي مِلْك لملك بلجيكا "ليوبولد الثاني" فقط. وجدت كتيبة من الفيلق الأجنبي الفرنسي المسؤول عن استكشاف حدود إفريقيا الاستوائية الفرنسية موقعًا لباكورة إنتاج المطاط البلجيكي. ادَّعى كل منهما أن ملكية الأرض تعود إلى لبلده. واحتدَّ الموقف ثم أطلق الجنود المرتبكون النار. فقُتِلَ أحد عشر مدنيًّا بلجيكيًّا وثلاثة وعشرون من السكان الأصليين. وبعد بضعة أشهر، أسفر حادث مشابه عن مقتل أربعة عشر شخصًا بالقرب من الحدود السودانية. ثم وقع حادث آخر في العام التالي أودى بحياة ستة أشخاص في المكان نفسه، ثم وقع حادث آخر في وقت لاحق على الحدود الشمالية وشهد أيضًا مصرع ثمانية أشخاص. شكَّلت ثروات الكونغو مطمعًا بشكل خاص في أثناء المراحل التي أدت إلى انعقاد مؤتمر "برلين". وتحايلت فرنسا وإنجلترا بالسبل كافة من أجل زحزحة الحدود لمصلحة كل منهما، حتى لو أدى ذلك إلى استدراج بلجيكا إلى صراع مسلح محليٍّ لم يكن مرجحًا لها بالانتصار فيه. سعت أوروبا في ذلك الوقت للتدمير الذي جنى على أراضيها الخاصة بعد ربع قرن. ومع ذلك لم ترغب فرنسا ولا إنجلترا في التسبب علنًا في اندلاع صراع. ولقد تأكد "ليوبولد الثاني" من ذلك، فاختار اللعب على الشرعية. ولقد وجد أن الحدود الشمالية غير واضحة ويمكن أن تصبح مصدرًا للنزاع. فلم يوجد إلا شيء واحد لفعله ألا وهو إضفاء الوجود الواقعي لهذه الحدود، ثم رسم مسارها الدقيق نهائيًّا على خرائط مفصَّلة ودقيقة. ويعتبر "ليوبولد الثاني" بكل تأكيد هو أحد المُحرِّضين الرئيسيين لمؤتمر "برلين" والعنف الاستعماري في هذه الحقبة المليئة بالجشع والشهوات الوضيعة. ولقد أخذ في الاعتبار إستراتيجية اتخاذ قرارات لا تستدعي اللجوء لأصدقائه لأصدقائه المصرفيين ولا إلى رئيس الأركان، بل كانت لديه فكرة معقولة أُشيع أنها كانت مُقترَحة عليه من زوجته "ماري أنرييت دو هابسبور - لورين" أرشيدوقة النمسا وأميرة "بالاتين" من المجر، وهي امرأة فاتنة، مفعمة بالنشاط، وشغوفة بركوب الخيل للدرجة التي جعلتْها تُقدِّم العناية لخيول القصر الإمبراطوري بنفسها. وكان اقتراحها عليه أن يطلب مساعدة مهندس مساحة ذي حُنكة وخبرة. وجدير بالذكر أن "ماسون" و"ديكسون" قد وضعا حدود "ماريلاند" مع "ديلاوار" و"بنسيلفانيا" في القرن الماضي. ولكن من سيطلب الملك مساعدته هو مهندس مساحة آخر ممتاز وواعد للغاية، على حد قول أساتذته وزملائه من جمعية مهندسي مساحة بلجيكا في "أنفير". "بيير كلايس" من مواليد "بروج"، لم يُتِم الثلاثين من عمره بعد، ولغته الأم هي الفلمنكية، ولكنه يجيد الفرنسية بطلاقة، وله لَكْنَةٌ جنوبية واضحة وغريبة مع أنه لم يذهب إلى الجنوب من قبل. وقد أسفرت التوترات الإقليمية التي أفسدت علاقة بلجيكا بجيرانها الاستعماريين إلى تكليفه بأن ينزل إلى أرض الواقع بين السكان الأصليين والحيوانات الشرسة، ليحدد بدقة جزءًا من الحدود الشمالية لدولة الكونغو الحرة وينقلها بدقة على الخرائط الرسمية؛ في المكان نفسه الذي سبق أن حدده الغزاة - البرجوازيون ذوو اللحى الكبيرة - على الخريطة كمصير بلد برسم متعجِّل، وقد طُلِبَ من "كلايس" أن يُجسِّد على الأراضي البرية المخطط الدقيق لما سمَّته أوروبا آنذاك بـ"التقدم". غادر "بيير كلايس" أوروبا من "أنفير" يوم 10 يناير 1890 على متن السفينة الإنكليزية "فيكتوريا". واستغرق الإعداد العلمي واللوجستي للمهمة ستة أشهر، وهو الحد الأدنى للمغامرة في عمق ما سماه الرأي العام البلجيكي بـ"الكونغو مينوتور". ولو أدرك مهندس المساحة الشاب - مثل الجميع في ذلك الوقت - أن عدد الرجال العائدين من إفريقيا أقل ممن يسافرون إليها، لفقد الثقة بالتعداد الدقيق للوفيات التي يعلنها موظفو الخدمة المدنية البلجيكية في المستعمرات من كثرة إخفائها. وتنص اللوائح المتعلقة بموظفي دولة الكونغو الحرة، في المادة 4 على أن يتعهد الموظفون بعدم تسريب أي شيء بخصوص شؤون الدولة لأي شخص لا ينتمي إلى النظام الإداري. لم يكن "بيير كلايس" يعرف في عام 1890 أن معدل وفيات الموظفين الحكوميين الإقليميين الذين يعملون بالكونغو هو واحد لكل ثلاثة، وذلك دون حساب حالات الإعاقة البالغة وأحيانًا المستديمة التي كانت تتسبب فيها الأمراض الاستوائية. ولكونه موظفًا جيدًا للدولة، فقد ركَّز اهتمامه قبل كل شيء على إنجاز مهمته، والمضي قدمًا في المغامرة التي تخيلها مثيرة وجميلة مثلما قرأ بشغف من قبل في كتب اللغة الإنجليزية حينما كان في سن الخامسة عشرة وحتى سن العشرين. ولقد غادر بلده في ذلك اليوم غير آسف، بل تملَّكه بعض الفخر لإيمانه بالمشروع الذي سيحقق التحضر لبلده، وكان معتدًّا بنفسه، واثقًا بمَلِكِه وكان الجو جميلًا يوم أن غادر بلده، حتى إنه تساءل في سن مبكرة كيف لهذه السماء الزرقاء أن تكذب؟ حتمًا سوف يعود. بيد أن خرائط القارة السوداء كانت ناصعة البياض آنذاك وتحتاج إلى أن تُرسَم. فهذا الامتداد البكر على الخريطة المسطحة جعلت الفتيان الصغار يحلمون، في حين أرهقت الرجال في غاباتها المظلمة وكشفت عن قسوة قلوبهم بالكامل. إن هذه النقطة العمياء الغائبة عن الخرائط هي النقطة العمياء نفسها الغائبة عن الروح. وكان في وسط النهر قبطان أجنبي على باخرة صغيرة يحاول أن يكون بعيدًا عن جنون الأرض الثابتة لكي يحافظ على رجاحة عقله، إلا أن مهمة "بيير كلايس" تأبى إلا أن تقوده بانتظام إلى البر.
مشاركة :