يشكل الجنون زاوية مفارقة في الدراسات العلمية والسيكولوجية، والاجتماعية والسياسية والجمالية حتى قيل في اللغة العربية «جن جنونه»، هذه كلها تعبيرات عديدة عن حالة نفسية، أو اجتماعية أو سلوكية أو روحانية، ولكنها تمتد بالضرورة لتشمل الحالات التأملية والإبداعية والتعبيرات الفنية. إن الجنون تحلل وتحرر من قوة العقل الضابطة للتأمل، هي ظاهرة فكرية تأملية من حيث هو فقدان للعقل، وظاهرة أخلاقية من حيث هو خروج عن المألوف، وظاهرة نفسية من حيث إنه ارتباك وانعدام التوازن، وظاهرة اجتماعية من حيث هو تهميش، أو اختيار للهامش وظاهرة إبداعية من حيث هو انزياح عن القاعدة والنسق. والجنون كذلك مفهوم ثقافي، واجتماعي، ومعرفي أكثر منه مفهومًا نفسيًا، أو لغويًا، ويستعمل الجنون لا باعتباره استدلالاً عن نقص في الكفاءة، ولكن بوصفه وسيلة للإقصاء خارج دائرة السياقات المهيمنة في الفضاءات الإبداعية والسياسية والفكرية والسلوكية. للجنون، بمعناه الواسع، ليس في حدود المرض العقلي الذي ينتهي في غياهبه كل خلق وإبداع، هناك سمات إيجابية كبري يناط بالأدب الرفيع والفكر الفذ استغلالها واستثمارها في إنتاج ضروب من المعارف والحقائق الباهرة. لقد اهتمت الفلسفة بالعقل وجعلته في مركز تفكيرها وبحثها وتأملاتها، وعملت على تكوين وتشكيل المفاهيم وانصرفت نحو دراسة نظرياته، فإن نقيض العقل، وهو ظاهرة الجنون، لم تجد من الفلاسفة الإغراء الكافي أو الشغف الذي يجعلهم يبحثون في عوالمه ومجاهله. وكان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هو من أكثر الفلاسفة الذين تعمقوا في هذه القضية، حيث أخضعها لحفرياته في كتابه «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»، الذي هو عبارة عن رصد تاريخي للأفكار والممارسات والمؤسسات والفنون والآداب المتعلقة بالأزمات النفسية في التاريخ الغربي. والملاحظ أن اهتمام فوكو كان منصباً بصورة خاصة على صلة الأمراض النفسية بمجالي الأدب والفنون، وهذا ما يشير إلى حقيقة العلاقة التي يقيمها الكثيرون بين الجنون والإبداع، والجنون في الأدب حالة معقدة بالفعل، ونشير هنا إلى تناوله وتوظيفه في الكتابات الأدبية. ولعل من أشهر المؤلفات التي تناولت لحظات جنون الأدباء كتاب «العبقرية والجنون في الرسم والموسيقى والأدب» للكاتب فيليب برينو، الذي يطرح من خلاله العديد من التساؤلات المتعلقة بشخصيات مؤثرة في مجال الأدب حيث إن العبقرية لدى هذه الشخصيات الاستثنائية تجاورت مع الجنون. والجنون في الشعر والنثر الفني يعبر عن غياب العقل وانحراف في سلوكيات المجنون من خلال تفاعله من المجتمعات ليتم توظيف هذه الانحرافات بشكل إبداعي في النصوص الأدبية. ** ** الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها - جامعة عالية، كولكاتا - الهند
مشاركة :