أحدثت نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة في العراق انقلابا بسيطا في المعادلة السياسية التي تستند عليها عملية تشكيل الحكومة ومن ثم طريقة إدارة الدولة والهدف من ورائها. فبدلا من أن تفوز الطبقة السياسية المكرسة رسميا كلها اتجهت الأصوات نحو فريق واحد لتمنى الفرق الأخرى بهزيمة قاصمة للظهر لم يكن التستر عليها ممكنا. ليس مهما هنا مَن فاز من بين الطرفين السني والكردي الملحقين بالنظام لتزيينه أولا واضفاء طابع الطائفية والعرقية عليه ثانيا، بل المهم مَن انتصر من بين الأطراف الشيعية وصرع أخوته الأعداء الذين ينظرون إليه باحتقار، فهو الطرف الذي سيمسك بيده السلطة التنفيذية التي هي حارسة المال وراعية القوة. المال والسلاح هما قطبا المعادلة السياسية في العراق. ولكن أي مال وأي سلاح؟ في كل مكان وزمان يشكل المال والسلاح مصدرين لقوة الدولة، اية دولة ولكنهما في العراق يُستعملان ضد الدولة. للهيمنة عليها وتركيعها ووضعها في خدمة قوى لا ترغب أصلا في قيامة دولة وهي تعمل دائما على أن يظل مشروع الدولة محصورا في دائرة ما يوفر لها من غطاء قانوني تمارس من خلاله عمليات الفساد المالي والاستقواء بالسلاح. الكارثة التي حلت بالأحزاب الشيعية التي تجمعت في تحالف "الإطار التنسيقي" لا تتعلق بمَن يحكم ولا بكيفية إدارة شؤون الدولة، بل بالنوايا المبيتة التي يمكن أن تجد طريقها إلى التنفيذ فيما إذا تم اقرار النتائج وتثبيتها ونجاح مقتدى الصدر في تأليف حكومة لا تتوزع حصصا بين الأحزاب وهو ما يعني عمليا فقدان السيطرة على مصادر المال والتعرض للمساءلة في ما يخص المال الذي نهب عبر السنوات الماضية. وستكون إشكالية السلاح غير الشرعي واحدة من أكثر القضايا حساسية لا على مستوى محلي حسب، بل وأيضا على مستوى العلاقة بإيران التي ترعى وتدعم ذلك السلاح كون الحشد الشعبي هو ميليشيا تابعة للحرس الثوري الإيراني. ولن يكون الصدر فريسة سهلة لحرب يكون الحشد الشعبي الطرف الآخر فيها، فهو لن ينجر إليها كما أن إيران لا تفضل الدخول في حرب مباشرة جديدة ضد الجيش العراقي من خلال ميليشياتها التي لن تربح النزال بسبب الموقف العالمي الذي لن يرحمها. ولكن هناك مَن يشكك بإرادة الصدر ومدى قدرته على الصمود لا أمام خصومه الشيعة، بل أمام نزعته الطائفية التي سعى ويسعى على التغطية عليها بالوطنية. أمر حسن يمكن أن يُحسب له. ذلك لأن مفهوم الوطنية قد تم التشكيك بصلاحيته للاستعمال منذ اليوم الأول من الاحتلال الأميركي. غير أن التاريخ الطائفي للميليشيات التي قادها الصدر لا يبشر بخير. فهل تغير الرجل الذي لم يعد خصومه بعد اجتماعه بهم بما يريحهم. ولكن لا شيء في الحقيقة يُريحهم سوى الغاء الانتخابات ضمنا من خلال العودة إلى نظام المحاصصة الحزبية. "سنقلب صفحة الانتخابات ويأخذ كل ذي حق حقه ونستأنف سيرتنا الأخوية". تلك هي الوصفة الوحيدة المريحة للجميع. ولكن الصدر حتى في أقصى حالات نزعته الطائفية لن يرضى بالتنازل عن نصره الساحق من أجل ارضاء جماعات صار متعارفا على مستوى شعبي بأنها موالية إلى إيران. بمعنى أنها لن تكون قادرة على أن تضع نفسها في خدمة المشروع الوطني. ذلك المشروع الذي يلوح به مقتدى الصدر من غير أن يكون واضح المعالم أو أن تُسمى عناصره. هل سيلجأ الصدر إلى عقده الشخصية في حل مشكلاته مع الآخرين الذين يود لو أنه محا وجودهم من الخريطة السياسية مثلما محوا وجوده من تفكيرهم السياسي؟ شيء من هذا القبيل يمكن توقع حدوثه. بناء على ذلك يمكن القول إن هناك صراع وجود بين قوتين. قوة تحاول أن تبقي الدولة في حالة اختطاف وقوة لا تملك سوى أن تعد بالإصلاح ومحاربة الفساد، ولكنها يمكن أن تتعثر لأنها تحمل أسباب عطبها داخلها. صورة المنتصر لن يتخلى عنها الصدر. ليس المنتصر في الانتخابات، ولكنه المنتصر على خصومه الشيعة. تلك هي فرصته التاريخية لكي يعيد بالمقلوب صولة الفرسان ضد نوري المالكي لكن بطريقة سلمية. ذلك ما يمكن أن يفعله. ما يتوقعه زعماء الأحزاب إذا تم ما طردهم من السلطة أن المرحلة المقبلة ستشهد وقوفهم أمام المحاكم. أولا لخيانتهم وثانيا لفسادهم وثالثا لعبثهم بالوطن والمواطنة. ولكن حتى في حالة تبخر الميليشيات وهو ما يمكن حدوثه في العراق قد لا تكون تلك المحاكم موجودة.
مشاركة :