نعمة الجهل

  • 12/12/2021
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

كنا وما زلنا نغرس في نفوس أبنائنا حب المعرفة، لأنها الأداة التي نواجه بها العالم. لكننا سنجد رغم ذلك من يحمد الجهل، نقيض العلم، لأن من العلم ما قتل كما يقول الأخطل الصغير. وإذا تفحصنا مقولة الأخطل الصغير، وجدنا أنها محقة من أوجه ربما لا ترد على ذهن السامع عادة. فقد يقتل العلم الإنسان كمداً، إما قتلاً جسدياً أو معنوياً، لكن ربما قتل إضافة إلى الإنسان أشياء أخرى. فقد يقتل العلم بعواقب الأمور روح الإقدام والمغامرة، وقد تقتل المعرفة حب الاكتشاف والسؤال عن الحد الوهمي بين المعقول وغير المعقول، والممكن وغير الممكن. وإذا كان للابتكار محرك فلابد أن يكون الجهل وقوده الذي يدفع به إلى المجهول دفعاً. إذا نظرنا إلى ظاهرة داننغ-كروقر التي تفسر لنا كيف يتصرف بعضهم بثقة رغم أنهم أقل الناس معرفة. فبحسب الظاهرة، توجد علاقة عكسية بين الجهل والثقة بالنفس، كلما ازداد جهل ابن آدم زادت ثقته بنفسه. فإذا اتسعت التجربة بحيث يكتشف حدود معرفته الحقيقية، فإن الثقة تقل تناسباً تدريجياً مع حجم التجربة. وقد ترتفع المعرفة والثقة بالتجربة بعد حين، إنما لن تعود الثقة إلى مستوياتها الأولى. فإذا كانت الثقة الزائفة هي الدافع لاقتحام المجهول، فتحصل المعرفة بالتجربة عندما يكون التراجع صعباً، فبذلك يكون الجهل نعمة. من ملامح سير رواد الأعمال أنهم يقتحمون مجالات لا يفهمونها لا هم ولا من حولهم. وفي بعض الأحيان، تكون المجالات جديدة تماماً، فلا سبيل للمعرفة إلا باقتحام التجربة. كان ستيف جوبز في بداياته، على سبيل المثال، أقرب ما يكون في حياته الشخصية إلى الحمق. فقد تشبث بمعتقدات وطقوس غريبة، لا تنم عن شخصية متزنة يوثق بها. بل كادت تصرفاته الشخصية أن تقضي على حظوظه في بداية حياته، فلم يكن شكله ولا تصرفه مع أقرانه مقبولاً. ما ساعد في التغلب على جوانب شخصيته السلبية هو ثقته المفرطة بنفسه وذكاؤه الذي يبرق في سواد انفعالاته الحالكة. كان من عادته الحديث بثقة في أمور لا يعرف عنها إلا القليل، فإما أن يُصدم بمن يفحمه، أو يقنع من حوله بثقته الشديدة بنفسه. وقد استطاع ستيف جوبز بجرأة اقتحام حصون الآخرين، فمنها ما تهاوى ومنها ما صمد، إنما وجد أمراً مهماً يجدر بنا الوقوف عنده كثيراً، أن جهل الآخرين أكثر من علمهم. فقد كان يدفع الجميع بقوة إلى مناطق يجهلونها، فيتساوى معهم إلى حد كبير، ويهوي بهم في منحنى داننغ-كروقر في قعر التجربة. هل كان ستيف جوبز صادقاً في معرفته بنفسه، فكان على وعي بجهله فوظفه لصالحه أم كان غافلاً عن ذلك تماماً؟ لعل الخيار الأول يتماشى أكثر مع صورة العبقري التي يُعرف بها اليوم.

مشاركة :