يقوم الوطن كل صباح لينحني إجلالاً وتعظيماً لأرواح أبطاله الذين ضحوا بأنفسهم فداء للوطن، وتغيب الشمس احتراماً لتلك الشموس الساطعة في سماء العزة والكرامة والفداء، إن الشهيد لا يوصف إلا ب الشهيد، فليس هناك كلمة يمكن لها أن تصفه وتصف الدماء الطاهرة التي سالت من جنود قواتنا المسلحة الباسلة، هذه الدماء روت تراب الوطن الغالي، لتظل خير شاهد على وفاء أبنائها وشعبها وإخلاصهم للقيادة الرشيدة، وليكتب الشهداء الأبرار أسماءهم بحروف من نور في تاريخ الدولة، بعد أن ضحوا بأرواحهم، من أجل أن يبقى علم الإمارات شامخاً. رجال القوات المسلحة البواسل كانوا دوماً عند حسن الظن بهم في تلبية نداء الواجب، وضربوا أروع الأمثلة على الوطنية والنبل والعطاء والتضحية في سبيل الوطن. إن الشهادة في ميادين الواجب وساحات الدفاع عن الحق شرف عظيم لأبناء الوطن الغالي، وسيظل عطاؤهم الثرّ وساماً على صدور شعبهم وأهلهم، من هؤلاء الشهيد الطيار سهيل مبارك عبد الله محمد الظاهري الذي استشهد في طلعة جوية تدريبية في التاسع عشر من يوليو/تموز 2011. ولد الشهيد في مدينة دبا الحصن، عام 1984، لأب يعمل في القوات المسلحة، وسط 20 من الإخوة والأخوات. أخوه الأكبر يعمل في القوات المسلحة فني طيران حربي، ترتيبه الثالث بين إخوته. أنهى الشهيد دراسته الإعدادية فى مدارس دبا الفجيرة لينتقل إلى إمارة أبوظبي، للالتحاق بالمدرسة الثانوية الجوية عام 1999، وبعد التخرج التحق بكلية خليفة للطيران بمدينة العين عام 2002، ليحقق حلم حياته بأن يكون طياراً مقاتلاً يحمي سماء بلاده ويكمل مسيرة الأب والأخ في خدمة الدولة، وحماية سمائها وأرضها، وحصل الشهيد على دورات تدريبية متميزة، منها دورة طيران انفرادي من قيادة القوات الجوية والدفاع الجوي بمدينة العين، كما حصل على دورة في القفز بالمظلات من أمريكا، ودورة تحديث نظام الإمداد العسكري من معهد هاوارد للتدريب للشرق الأوسط بالإمارات، وغيرها. التحدي الأكبر في عام 2007 تعرض البطل سهيل لحادث مروري بليغ على طريق رأس الخيمة، أصيب على أثره بتمزق في أربطة الركبة والقدم وكسر في ثلاثة ضلوع في الصدر وقطع في أنكل القدم اليمنى. أدخل المستشفى ليخضع لعمليات خطرة أبعدته عن الطيران والحياة العسكرية التي عشقها، وبعد شفائه، وعندما كشفت عليه اللجنة الطبية المعنية منعت عودته للعمل طياراً مقاتلاً، وأصدرت قراراً بعدم لياقته الطبية ليكون طياراً وإبعاده من الخدمة، ما كان له الأثر البالغ في حالته النفسية ويومها اتصل بأخيه الأصغر عبد الله، ليبلغه بأنه لن يستسلم، ولن ييأس وسيواصل مسيرة الكفاح، ليعود للتحليق صقراً من صقور الطيران الإماراتي. وبالفعل وضع لنفسه برنامجاً تأهيلياً وتقوية لعضلات القدم والأربطة، واستمر في التدريب لمدة سنة كاملة، ولم يستسلم لقرار اللجنة، وذهب إلى القيادة العامة ليطلب توقيع الكشف الطبي عليه للعودة إلى العمل طياراً مقاتلاً، وكانت المفاجأة، حيث أعلنت اللجنة أن سهيل مبارك، قام بمعجزة لم تحدث من قبل، وأنه عاد إلى لياقته البدنية والطبية، وأقرت بعودته إلى القاعدة الجوية طياراً مقاتلاً، ليحلق من جديد في السماء نسراً من نسور الجوّ يحمى سماء الوطن ويدافع عن أراضيه. خبر الاستشهاد يقول عبد الله مبارك شقيق الشهيد الأصغر: كنت جالساً مع أصدقائي، ووردنا نبأ سقوط طائرة حربية وفقدان قائدها، توقعت على الفور أنه أخي سهيل، وقمت بالاتصال بابن عمتي فلاح أحمد، وهو فني تسليح طيران بالقاعدة الجوية نفسها بالبطين، سألني فلاح: أنت وحدك أم معك أحد؟، فتأكدت أن الطيار المفقود هو أخي سهيل. وذكر أن البحث عنه جارٍ، على أمل أن يكون قفز من الطائرة قبل سقوطها. وتوجهت للمنزل لأخبر الوالد أن طائرة سهيل سقطت، ويقولون إن سهيل قفز منها، وجارٍ البحث عنه، انهمرت عندها دموع الوالد، وأدرك أن الله اختار ابنه شهيداً قبل عقد قرانه بأيام. وعلى الفور ذهب أخي الأكبر علي إلى قاعدة الظفرة الجوية، ليتأكد من خبر استشهاده. وأكد أن طاعة ولي الأمر من طاعة الله، ونحن جميعاً فداء للوطن وللقيادة الرشيدة، ومستعدون لخدمة الوطن في أي مكان وزمان ونتمنى أن نلحق بأخينا الشهيد سهيل في الجنة شهداء للوطن. علاقته بوالدته الله أحبه واختاره، وابني لا يغلو على الوطن، كانت هذه أول كلمات أم علي، والدة الشهيد، عبرت بها عن الصبر والرضا على قضاء الله وقدره، لتؤكد أنها على استعداد لتقديم باقي أبنائها فداء للوطن والأرض ولقادتنا أولياء أمورنا، فابني مات شهيداً، وهذا من فضل الله علينا، لقد مات سهيل رجلاً أبياً شريفاً، وهو يدافع عن الدين والوطن والأرض، وفي آخر اتصال بسهيل طلب مني وأنا في صحن الكعبة أن أدعو له بالشهادة، وكانت ساعة استجابة وجاءني الخبر بسقوط طائرة سهيل من أخيه عبد الله، وطلب مني العودة لزيارته في المستشفى، ولكن قلبي أكد لي أن ابني سهيل استشهد، وعند عودتي إلى أرض الوطن استقبلني عبد الله في المطار، وطلبت منه الذهاب فوراً إلى المستشفى لأطمئن على سهيل، وقد أصرّ عبد الله على الذهاب إلى المنزل أولاً، وعندما اقتربنا، قال لي والدموع تتساقط من عينيه يا أمي كنت تحضّرين لزواج سهيل وزفافه، لكن مشيئة الله فوق كل شيء، وربنا اختار سهيل ليزفه في الجنة في يوم عقد قرانه على الأرض، فابنك الآن في الجنة، وعند تأكيد الخبر من عبد الله أنزل الله على قلبي السكينة والرضا. الأخ والقدوة أخوه الصغير طحنون يحكي عن علاقته بالشهيد، فيقول كان سهيل فخر العائلة كلها ومثالاً للإصرار والتحدي، فهو من دفعني لتكملة دراستي برغم التحاقي بالعمل بوزارة الداخلية، وعندما وصلني خبر سقوط طائرته، ولم يتأكد خبر استشهاده بعد، كان قلبي يحدثني بأن أخي في خطر، وكنت على أمل أن يكون أخي قد قفز من الطائرة قبل سقوطها، ولكنه كان أملاً ضعيفاً، ولكي أطمئن نفسي وإخوتي، قررت أن أكون أكثر تماسكاً، خوفاً على أخواتي البنات وكنت أدخل غرفته وأبكي بصمت، وطلبت من أمي الانتقال إلى غرفة أخي سهيل، وكان شرطها الوحيد هو الحفاظ على كل متعلقاته، لأنه ،رحمه الله، كان منظماً ومنضبطاً جداً، وأنا فوضوي وتعلمت من سهيل الانضباط والنظام، وأذكر أن آخر اتصال بيننا، قبل صعوده للطائرة، كان للاطمئنان إلى ترتيبات العرس من شراء المواشي، ودعوات الأهل والأصدقاء، ونصب خيمةالفرح الذي تحول إلى مجلس عزاء لوداع الشهيد. الرحلة الأخيرة يقول علي شقيق الشهيد الأكبر: كان سهيل نعم الأخ والصديق محبوباً من قادته، ومحل احترام من زملائه في القاعدة الجوية، وكان يصغرني ب12 سنة، وجمعنا سلاح الطيران، كما جمعنا المنزل والمنشأ، وكان الشهيد قدّم طلعته الجوية من يوم الأربعاء إلى يوم الثلاثاء، ليلحق بيوم عرسه. وقبل صعوده للطائرة قام بدعوة زملائه إلى يوم عرسه، لكن شاء القدر أن تصعد روحه الطاهرة إلى السماء، ليلقى ربه وتزفه الملائكة عريساً في الجنة.
مشاركة :