التونسية أم الزين بن شيخة: الرواية هي فعل فلسفي بامتياز

  • 12/13/2021
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

البعد المعرفي سمةُ بارزة في الروايات الحديثة التي تحتشدُ المعلومات في سياقها السردي، وبذلك أصبح فضاء الرواية مجالاً للتفكير في المفاهيم الفلسفية والمعطيات العلمية، ما يعني أن الانفتاح على التحولات واستشراف المآلات يخدم خطاب الرواية، ويزيده مرونة في تجديد الصياغات والأشكال التعبيرية.  وهذا ما تتوخى الكاتبة والأكاديمية التونسية أم الزين بن شيخة المسكيني تحقيقه في منجزها الروائي، إذ يتضايفُ في روايتها الجديدة "طوفان الحلوى في معبد الجماجم" الخطاب الفلسفي والأدبي، ناهيك من رصدها للظواهر الحياتية وتشابكها مع الفرضيات العلمية، إذ يتسع السياق الإبداعي لكل ذلك. عن محتوى روايتها الجديدة ورؤيتها بشأن دور الفلسفة في العالم اليوم، كان لنا حوار مع صاحبة "كانط والحداثة الدينية": اللقاء بين الفلسفة والرواية من أشكال التجديد - إلى جانب تخصصك في الدراسات الفلسفية ونشر المؤلفات في هذا المجال، أنجزت كتابة الأعمال الروائية، أينَ تتقاطعُ النصوص الروائية مع الاشتغالات الفكرية والفلسفية؟  مجال الإبداع باحة فسيحة لجولان المعاني ولاختبار قدرة الكتابة على اختراع الحرية. فالحرية فكرة تبحث لنفسها دوما عن حديقة تينع فيها وتزهر. الرواية هي إحدى حدائق الفلسفة، بل هي فعل فلسفي بامتياز، وربما تكون هي الفعل الكلامي الإنجازي الوحيد للفلسفة نفسها، بوصفها تنتمي إلى مجال الوعد بالسعادة، وفق عبارة مشهورة لستاندال، يعتبر "الجمال وعدا بالسعادة" أو- وفق عبارة أدرنو- أن "الفن وعد بالسعادة.. حتى لو كان هذا الوعد كاذبا".  إن اللقاء بين الفلسفة والرواية هو شكل من التجديد العميق لقدرة الفلسفة على إنتاج المعنى، وإلا تحولت إلى مجال "للعصائد اللاهوتية أو للعلف الأبستمولوجي"، وفق مجاز رشيق للمفكر فتحي المسكيني.  إن ما أكتبه في مجال الرواية هو تجريب لحدوس فلسفية اقتنصتها من فلاسفة كبار، اعتبروا الرواية إمكانية لولادة الفلسفة من خارجها. هؤلاء الفلاسفة وقّعوا منعرجا أدبيا للفلسفة منذ سارتر وميشال فوكو ودريدا ودولوز وريتشارد رورتي.  وبعضهم كتب الرواية مثل سارتر وكامو وسيمون دي بوفوار وألان باديو.. وهذا يعني أن فلسفة لا تؤسس للقاءات مع مجالات الإبداع الأخرى ستتحول إلى خطاب يأكل نفسه أو يتحول إلى معبد بلا مصلين.. الصياغة ثورة على النوع السائد من الرواية تتواردُ في سياق روايتك "طوفان الحلوى في معبد الجماجم" المقولات والمقتبسات والشذرات المناهضة لمفاهيم متزمتة، هل يمكن اعتبار هذه الصياغة ثورة على النوع السائد من الرواية؟ نعم هو كذلك، فمن يكتب وليس في نفسه شيء من ثورة على ما هو سائد في مجال الكتابة نفسها، لن يكون غير متملق كبير، أو مكنة سردية لمحاكاة التقنيات الروائية الجاهزة، كما لو كانت الرواية مصنعا لإعادة إنتاج العالم على نحو مماثل دوما.  ما أكتبه في مجال الرواية هو شكل من التجريب الروائي الذي لا ينطلق من مخطط جاهز، ولا يهدف إلى تأثيث الأمكنة الخاوية، بل قد يكون الفعل الروائي اختراعا للفراغ حتى تستعيد الورقة بياضها الأول.. أي قدرتها على استقبال عالم مغاير تماما لما يحدث في الواقع التاريخي.  الرواية لا علاقة لها بالزمان في المعنى التاريخي له، بل بالزمان المتخيل، وبالمكان الذي لا وجود له وباللغة التي هي كيفيات في صناعة العوالم، وألعاب تخييلية لامتناهية.  ما يمكن للرواية أن تنجزه هو ضرب من الشهادة على انهيار العالم أحيانا، حيث لم يبق من الزمان غير السرد.. ولم يبق من المكان غير اللغة، لذلك تناسل الشذرات من شروخ بقايا لغة تتكسر وتتشرد وتتوه على لسان شخصيات معطوبة فقدت عالمها، لكنها لا تزال تسكن المكان الذي منحته إياه اللغة، بما هي ملجأ من لا عالم لهم.. وتفقد الرواية حبكتها السردية، لتستحيل إلى فضاء كبير تسبح فيه الذرات اللغوية والكائنات التخييلية، في شكل من اللعب بالفراغ وإعادة تنضيده على نحو مغاير.  هنا تتدخل الفلسفة كفن للسؤال أي لزعزعة العوالم الجاهزة، تتدخل في شكل وضعيات تأويلية تتخذ من الشذرة الفلسفية منها لاحداث الشروخ في خرائط السرد، ولفرض البطء حيث يسرع الجميع نحو حتفهم رواية في شكل مشاهد مسرحية وتشكيلية - ينفتحُ فضاء روايتك على المسرح والفن التشكيلي، والفرضيات العلمية بشأن إمكانية الحياة خارج كوكبنا، برأيك ما هو المسوغ لوجود هذا الحشد الثقافي في الروايات الحديثة؟ تقتضي الكتابة السردية اليوم ضرورة الانفتاح على المجالات المعرفية والفنية الأخرى، وذلك لأننا نعيش في عصر انفتاح المجالات العلمية والإبداعية على بعضها بعضاً، بفضل البراديغم المعرفي الجديد القائم على تضافر الاختصاصات والمعارف البينية.  وهذا ما حاولت تجريبه خاصة في روايتي الأخيرة "طوفان من الحلوى" بتاريخ 2021 بحيث تأتي الرواية في شكل مشاهد مسرحية وتتخذ من الفن التشكيلي أرضية لبناء عالمها الروائي، حيث يشتغل الرسام "كوشمار" على تحويل "الرؤوس المذبوحة" ـ رؤوس إخوته- إلى لوحات ديستوبية يعيد فيها اللقاء بين الرسم والسرد، الحياة إلى أبطال الرواية المقتولين هدرا، تحت راية الإرهاب الأصولي الاسلاموي.. فيمنحهم هذا اللقاء التخييلي بين الفنون القدرة على الكلام من جديد. فتستحيل الرواية أحيانا إلى مجال لحوارات بين الرؤوس المذبوحة المفصولة عن أجسادها.. وتستحيل أيضا إلى سفر في المكان والزمان نحو كواكب أخرى، حيث تلتقي الأرواح خارج مجال الجاذبية أي خارج مجال القتل أيضا.. وتتصادى الأصوات من كل مكان: من القاع حيث تزدحم في حفرة لا قاع لها، أو من الفضاء الفسيح، حيث الثقوب السوداء تكثر من الأفخاخ السردية، ومن أشكال السقوط أيضا، لذلك يمثل اختراع المدى، حيث يكاد الأفق أن ينغلق أمام الإنسانية الحالية رهان الكتابة الإبداعية اليوم.  ما نحتاجه هو المدى الذي حولته التكنولوجيات العلمية والرقمية الحديثة إلى مساحة للتوقع وللحسابات الدقيقة، ما أدى إلى السطو على ميدان المخيلة، وجعلها موضوعاً للذكاء الاصطناعي. الرواية تعيد للمخيلة حريتها وعفويتها الأولى، وتجعل المستقبل ممكنا داخل كل كتابة إبداعية. كل رواية هي قدرة على إنجاب رواية أخرى - الاهتمام بمشروع كتابة الرواية داخل رواية ملمح بارز في تصميم "طوفان الحلوى في معبد الجماجم" لماذا تتوسل كائناتك الورقية بتدوين سيرتها في إطار الرواية؟  كل رواية هي قدرة على إنجاب رواية أخرى، هكذا أجاب أحد الفلاسفة المعاصرين حينما سُئل "لماذا نكتب قصة ما؟" أجاب "من أجل قصة أخرى".  وقال فيسلوف آخر "نحن نكتب من أجل العجول التي تُذبح كل يوم". ومادامت عمليات الذبح للعجول مستمرة، تبقى الكتابة هي الشكل الوحيد لإنصاف الضحايا في كل مكان. العجول ههنا هم البشر أيضا حينما تتم استباحة أرواحهم ودمائهم ومعاملتهم كما لو كانوا رؤوسا صالحة للقطع أيضا.  وكلما استحال تطبيق العدالة وإعادة الحق إلى أصحابه، يمكن للرواية أن تنجز العدل كتابة. والرواية هنا هي إمكانية لتناسل العوالم، وحدوث الممكن رغم تحويل الدول له إلى ضرب من المستحيل المطلق.  هذا ما نعثر عليه أيضا في رواياتي الثلاث: "جرحى السماء" هي بمثابة بحث البطلة ياسمين عن رواية مفقودة لأمها "أقحوانة" بعنوان "ضجيج". وفي روايتي "لن تجنّ وحيدا هذا اليوم" كانت الرواية مجالا تخييليا لأبطال معطوبين يحاولون إنجاز فيلم كبير عن الثورة التونسية وخيباتها ومآلاتها تحت عنوان "مسوخ ضاحكة".  وفي "طوفان من الحلوى" تسلم الأم ابنتها البطلة ميارى مخطوط رواية وتطالبها بتصحيح أخطائها ونشرها كآخر هدية لها قبل موتها.. وميارى نفسها تكتب رواية داخل الرواية عن "أحلام الفيروسات". وفي الحقيقة ما تراهن عليه كل رواية إنما هو في اعتقادي جعل السرد مساحة لإبداع المستقبل رغم كل أشكال الكارثة التي تهدد المستقبل التاريخي للبشر. جدلية الإبداع والموت  - تناقش الرواية جدلية الإبداع والموت، وكلما حاصر الموت الإنسان يتمُ التحول نحو العوالم الموازية في الأدب، برأيك هل ينجحُ الإبداع الأدبي في مقاومة أزمنة الموت؟  نعم بوسع الرواية أن تقاوم الموت بما هي قصة أخرى لعالم مغاير، وذلك لا يتم فقط عبر استمرار اللغة في حكي وتسريد ما يحدث، بل في تشغيل المخيلة كمجال وحيد لاختراع الحياة دوما ومن جديد. بودلير يقول "إن المخيلة خلقت العالم لذلك ينبغي أن تقوده". الرواية هي ضرب من التحدي الكبير لمن يعتقد أن للحياة وجهاً واحداً، وإمكانية وحيدة، هي ما ترعاها الدول عبر أنظمة التحكم بالأجساد وضروب اعتقالها، وفق هندسة دقيقة محسوبة النتائج.  وعليه فإن الرواية تقترح خارج مجالات خطط المنظومات والمؤسسات للدولة إمكانية مغايرة لرعاية الحياة ولتحريرها من كل أشكال التحكم بها.. تصلح الرواية أيضا لمصاحبتنا في جحيم الحياة الحديثة بوصفها "الوجه المشرق من الكارثة" على حد قول لروني جيرار، لكنها في الوقت نفسه قد تكون "الصدى المتواصل لما لا يمكنه أن يكف عن الكلام" (بلانشو) وتلك علامة صحة روحية ورمزية وعاطفية كبرى. يقول جيل دولوز "نحن لا نكتب لأننا مرضى، بل نكتب لأننا في صحة جيدة" وعليه فإن الأدب يجعلنا نتمتع بصحة عاطفية جيدة، فهو يخول مرور الحياة عبر اللغة. شخصيات معطوبة ومتأزمة - شخصيات الرواية كلها متأزمة ولا يعقدُ عليها الأمل، الطبيب والفنان ورجل الدين ورجل الدولة كلهم متورطون في دوامة اليأس، لكن مياري هي الوحيدة لا تستسلم للجنون، وتريد إعادة الذاكرة للفنان هل تمثل هذه الشخصية رمزا للحب مقابل طوفان الكراهية؟  صحيح أن شخصيات رواية "طوفان من الحلوى في معبد الجماجم" هي شخصيات معطوبة، ولكن هذا لا يعني أنها غير قادرة على اقتراح الأمل. فاليأس داخل الرواية هو وجهة نظر على عمق وحنكة فنية بعيدة المدى.. لا أمل إلا لليائسين، وحده من دمرته الحكومات والسياسات الظالمة بوسعه أن يصنع من يأسه سماء مغايرة.. نحن لا نكتب انطلاقا من ترف ما سواء كان هذا الترف اجتماعيا أم فكريا.. نكتب دوما بأصوات من لا صوت لهم، أي من حرموا من إمكانية صنع عوالمهم بأنفسهم. إن رواية تتخذ من العالم الجاهز أرضية لها وتكتفي بالتوصيف والتنويع على ما يحدث كما لو كان الإمكانية الوحيدة لما يمكن أن يحدث، ليست في نظري غير تأثيث لبياض الورق.. وبعض من يكتب اليوم يفعل ذلك، وقد ينجح في بيع ما يكتب لكن اختراع أسلوب جديد في الكتابة هو المقياس الوحيد للإبداع بحسب كل الفلاسفة والمبدعين معا. كيف يمكن للرواية أن تخترع الأمل؟ ذاك هو أحد الرهانات الأساسية للكتابة الإبداعية، وقد اضطلع شخصيات طوفان من الحلوى بهذه الخطة في معان عدة. ميارى التي كانت تتخذ من قراءة الروايات ومن محاورة أصحابها، فسحة لاختراع معنى لحياتها.. وكوشمار الذي جعل من الرسم شكل سكنه لقرية الرؤوس المقطوعة.. كان يرسمها كل يوم ويعتني بحياتها السردية ويحاورها ويرضيها ويتألم معها ويرسم لها أحلاما جديدة أيضا.. وكان كل يوم يمحو ما يرسم من أجل رسم جديد.. وكان بهذه الطريقة ينتج الأمل، وينتهي جالسا على قمة الجبل منصتا إلى الزغاريد التي تأتيه من قصة أخرى، لعلها أعراس إخوته المذبوحين في عالم آخر. الفلسفة ضرب من الرياضة العقلية - أشرت في إحدى مقالاتك إلى ضرورة تحرير الفلسفة من المؤمنين بها والانتقال بهذا النشاط العقلي إلى الفضاءات العامة، هل تعتقدين أن الاشتغال الفلسفي مزاج مثل الرياضة والفن قبل أن يكون تنظيراً ونحتاً للمفاهيم؟  يمثل الاستعمال العمومي للفلسفة هدفا كبيرا وحلما معا. فأنا أعتقد أنه من الضروري إعادة الفلسفة إلى مكان مولدها.. لقد ظهرت الفلسفة في شوارع أثينا على لسان سقراط الذي تعلم الكثير عن ديوتيما الكاهنة والساحرة التي يُقال إنها أبعدت الطاعون عن أثينا. لقد تعلم سقراط عن ديوتيما فيلسوفة اليونان الأولى الكثير عن الحب، وأشياء أخرى بحسب قول سقراط نفسه في محاورة المأدبة. نحتاج إلى ديوتيما مرة أخرى من أجل نشر قيم الحب بيننا في عالم قائم على كوجيتو الكراهية. إن المقصود هنا هو التمييز بين الفلسفة كمجال أكاديمي ندرسه في المدارس والجامعات، والتفلسف كمهارة عمومية اجتماعية تدرب الناس على ثقافة الحوار وثقافة الفضاء العمومي، حيث يتم التوافق على قيم الحياة المشتركة والمواطنة السلمية في عالم يتسع للجميع. وذاك هو معنى عمومية الفلسفة أي جعلها نشاطا متاحا في الفضاء العمومي لتدريب الناس على الحرية وقيم العقل ونبذ العنف وتحصين العقول من أشكال الوصاية عليها، ومن إيديولوجيات غسل الأدمغة ودمغجتها. نحن دوما في الفلسفة في كل ما نقوم به، حين نشعر بضغوطات الزمان، وحين تصدمنا الخيانات، حين ننعم بقدوم النهار، وحين نتألم أو نفرح أو نيأس أو نحب.. وحين نكتب أو نرسم أو نرقص.. كلها حركات فلسفية لأنها سلوكات لإنتاج المعنى.  نعم الفلسفة كأي فن آخر هي ضرب من الرياضة العقلية التي تضمن صحة العقول وعدم سقوطها في ثقافة الدجل والخرافة والشعوذة، التي هيمنت في ديارنا على عقول الناس ومشاعرهم وعقائدهم. إن الفلسفة نضال دائم ضد لوبيات الدجالين والمشعوذين، من أجل اختراع مساحة مغايرة للحرية بما هي حاجة حيوية من دونها يتحول البشر إلى عجول تصلح لكل أشكال الذبح، من أجل أن تتمتع الدول بالرخاء والمجد.

مشاركة :