جورج زيناتي يكتب رواية الاقتلاع بنفحة فلسفية

  • 6/4/2016
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

بعد كتابه «الأخلاق عند إبن باجه» La morale d’Avempace، الصادر في فرنسا عام 1979 عن منشورات Vrin، وبعد «الفلسفة في مسارها» عام 2002، وبعد ترجمات عدة أهمّها «الذات عينها كآخر» للفيلسوف الفرنسي بول ريكور، يطلّ علينا جورج زيناتي هذه المرّة برواية «البلاوطن» L’apatride، الصادرة في فرنسا عام 2015 عن منشورات La Bruyère. يجمع الكاتب في هذه الرواية بين الخيال والواقع والشعر والفلسفة، وينقلنا إلى عالم يشبه أحلام الطفولة ويحمل نضج الرشد في آنٍ. أسماء شخصيّات الرواية وأسماء البلدان والمدن التي تجري فيها مولودة من رحم مخيّلة الكاتب. إنّها قصّة لينو Lino الذي ينتقل من بلد إلى آخر بعد موت أمّه واختفاء أبيه، ويعيش الحب والمغامرات التي يتعرّض فيها للخطر في كلّ مرّة نتيجة الكراهية السائدة بين البشر والغيرة والأنانيّة والبحث عن الأمجاد الباطلة. رواية جورج زيناتي تفكّر حول الوجود والحياة وحلمٌ بسعادة كاملة. في الحقيقة، نحن جميعنا نحلم بسعادة مطلقة يمكننا اختبارها عندما نبلغ ما لا نملك كما نأسف على سعادة بلغناها من دون إدراك ذلك، فنعيش حنيناً يشبه الحنين الأفلاطوني إلى عالم المثل، عالم الخير والحقيقة والجمال. هكذا كان دينو Dino، والد لينو، يريد أن يعيش حياة ناجحة في «فرح الوجود الذي يعتبره معجزة سلام تتجدّد كلّ صباح، وهبةً مجانيّة تقدّمها الحياة عينها بنعمة» (ص 6). وما الحياة إلاّ هبة، عطيّة لا تفسَّر، يعجز العقل البشري عن إدراكها وحدّها، إنّها عطيّة تفوق العقل والقول، وبالتالي فإنّها «معجزة» لا يستطيع المرء أمامها إلا الاندهاش. وليس هذا الاندهاش سلبيّاً أي إنّه ليس متلقٍّ فقط، بل هو أيضاً وبخاصّة فعلٌ وتجاوبٌ يحتفل الإنسان من خلالهما بفرح الوجود، على رغم أنّ هذا الأخير لا يسير دائماً في خطّ مستقيم. وروايته تفكّر حول الطفولة، وهي مرحلة الاندهاش المستمرّ والتساؤل المستمرّ، مفتاح كلّ معرفة وبحث عن الحقيقة. وهي كما تظهر عند جورج زيناتي، قدرة على فهم وتحليل أمور تغيب عن الراشدين، إلى حدّ أنّنا نتساءل إذا ما كان الرشد الحقيقي هو رشد الطفولة. ويبقى الخيل من بين كلّ الآثار التي تركها الذين سبقونا هو الأكثر ودّاً، إنّه أكثر ودّاً حتى من البشر، وذلك لأنّه يقوم بعمل عظيم لا يذكره أحد، في حين يفخر السياسيّون بأعمال عظيمة وهميّة لإرضاء رغبتهم الجامحة في أن يصبحوا استثنائيين، وهم يخدعون الشعب ويستغلّون ميل الناس إلى الخمول الفكري ويغذّونهم بشعائر يستهلكونها بسهولة، كما يقول الكاتب في الصفحة 36 من روايته. يذكّرنا جورج زيناتي هنا برواية باتريك سوسكيند «الكونتروباس»، فعازف الكونتروباس أساسيّ في الأوركسترا غير أنّه يبقى خفيّاً وهو الذي يرهق نفسه بحمل آلته الثقيلة وببقائه واقفاً أثناء الكونشرتو من دون أن ينتبه أحد إليه. في رواية جورج زيناتي تفكير في الموت الذي لم يعد عنده مجرّد ظاهرة بيولوجيّة، بخاصّة عندما «ينتزع منّا الكائن الأغلى»، فيبدو في هذه الحالة «فعل انتقام شخصيّ» يتلذّذ «بأن يتغذّى من لحم السيّئات المفروضة على الآخرين» (ص 15). أمّا عن الأموات فيقول الكاتب أنّهم يحملون معهم كلّ رغباتهم التي لم تتحقّق ويتشاركون في كآبتهم ومرارتهم. والمقابر وفق جورج زيناتي هي «هديّة الأحياء للأموات»، ونتساءل هنا: ما نفع هديّة الأحياء للأموات؟ ونجد الجواب عند الكاتب في نفحة سيكولوجيّة: يتملّكنا الشعور بالذنب عند موت من نحب، أو على الأرجح، إنّ المسؤوليّة تجاه الآخر ومن أجله هي التي تجعلنا نشعر بالذنب أمام موته، فنحاول أن نتخلّص من هذا الشعور ببناء المقابر الجميلة وبتقديم الهدايا. ويبدو أن البقاء على قيد الحياة يصبح ذنباً أمام الميت. وفي إطار التفكّر حول الموت، يسأل لينو والده: «إنّ الموتى يخيفون دائماً الأحياء، أليس كذلك أبي؟»، ويجيب الوالد: «غير أنّهم الكائنات الأقل أذيّة، فهم لم يعودوا سوى ذكريات متناثرة هنا وهناك». قد ينتج خوف الأحياء من الأموات عن كونهم يذكّرونهم بأنّهم مائتون، ورغبة الإنسان في الخلود هي الأكثر تجذّراً فيه، لذا بنيت المقابر في مدينة ميرال بعيداً عن قلب المدينة. ولا تخلو الرواية من الرومنطيّقية، فهي احتفال بالفنّ والجمال والحب. إنّها دعوة لعيش الحب ولحظات الحياة الجميلة «بكلّ انطلاق القلب» (ص 45). فالحب يصنع المعجزات، بل هو المعجزة الأولى، المعجزة الكبرى التي تجعل من الموت عرضاً، فـ «عندما نقدّم حياتنا للذين نحبّهم، يؤخذ الموت بخجل مريع ويفرّ حينئذ وندخل في قيامة أبديّة». ينسينا لقاء الحبيب الزمن ويبعث تقبيله من عمق أعماق جسدنا نوراً، وما هذا النور إلاّ الحب عينه. فعندما تعانق ألونا حبيبها لينو، لا يعود هناك «شمس ولا قمر بل ضوء يأتي من عمق الجسد حيث تعانق اللذة الفرح، ويحلّق الجسم كلّه في الطرق المجهولة للأفق اللامتناهي الخاص باكتشاف السعادة القصوى المختبئة في أعماق الحياة والتي نجدها بين ذراعي الحب الذي ولد للتوّ الشديدة العذوبة وبين ذراعي الآخر الذي يصبح فجأة أكثر حقيقة من أنفسنا» (ص 37-38). والآخر أكثر حقيقة لأنّه يعطينا لذاتنا ويجعلنا نكتشفها في الحب، فلم تعد معرفة الذات هنا معرفة تجاوزيّة بل محايثة، تأتي من أعماق الآخر إلى أعماق الذات، وما نحن في الحقيقة إلاّ شعاع حب. يدعونا جورج زيناتي الروائي والشاعر والفيلسوف في هذه الرواية إلى السلام وإلى الخروج من التعصّب العنصري الذي «يستقي جذوره من الجهل» (ص 36) وإلى عدم رفض الغريب لأننا جميعنا غرباء في قلب هذا العالم، جميعنا بلا وطن، نبحث عن وطن لا يحدَّد بمساحة جغرافيّة وتاريخيّة، وطن هو انفتاح ومبادرة، وطن هو الآخر: «أنا أيضاً أشعر في حضورك ألا شيء ينقصني. هويّتي أنت ووطني وجهك وحبّك موجود هنا ليعطيني كلّ ما ينقصني» (ص 96). البلاوطن نداء لمحاربة الشرّ بالفنّ والتعرّف إلى الحضارات وبالكتب التي ليست مجرّد موضوعات، بل إنّها نفوس كتّابها ونفس الإنسانيّة بأجمعها، والكتب صوت الإنسانيّة. والرواية دعوة للرجوع إلى الذات من خلال الحب والمعرفة، والحب معرفة.

مشاركة :