حينما يحل هاجس الكتابة فلن يكون الخيار إلا أن تستجيب! لتدفق ما بداخلك على الورقة، فلا مفر من أن تعانق حروفها، وتتمرغ في محرابها، وبعد صحبة معها لسنوات خلت من عمرك، فتتجذر أكثر وأكثر في أعماقك، وعقلك! وتبقى جزءًا من حياتك، ولا تعلم إلى متى؟! بل قد يغيب عنك مثل هذا التساؤل كلية، وأنت في خضم البحث عن الكلمة الصادقة التي تنير الدرب أو تشعل شمعة أو تثري معرفة وتنمي الفكر أو تدعو للبهجة واحتضان الأمل والتفاؤل.. إلخ. وفي رحلتك هذه مع الكلمة والتي تحمل في طياتها المعاناة، إلا إنك ستسر لحظتها لكونك حققت ما تنشد. لذلك تظل الكتابة بمثابة الهاجس، وهذا ما جعل الروائي كافاكا يحرص على أن يعيش بمعزل عن الآخرين من أجل أن يكتب ويكتب، فلا يوجد ما يشغله أو يثير اهتمامه في الحياة سوى الكتابة حتى كانت سببًا رئيسًا في ابتعاده حتى عن زوجته وذلك حينما خاطبها قائلاً: «وهل تودين العيش مع هذا المجنون بالكتابة»! وقد يعتبر البعض أن مثل هذا التصرف والغوص في بحر الكتابة إلى هذه الدرجة يعد خروجًا على المعقول، ولن تجد من يخطئهم في ذلك، ولكن تبقى الكتابة مالكة لمن يعشقها وهذا ما دعا الشاعر الراحل نزار قباني إلى القول وهو فوق السرير الأبيض يعيش آخر أيامه «لقد نزفت كثيرًا على الورق»! وهذا النزيف والاحتراق الداخلي والذي يختم بين فترة وأخرى بإبداعه الشعري الذي يملك عقول وقلوب معجبيه على مستوى الوطن العربي يجعله جذلاً بل يتملكه الشعور بالرضا، ومواصلة العطاء في ميدان الكلمة، حينما يلامس مدى وقع أعماله، وصدى كتاباته في نفوس المتلقين. الشاعر الرومانسي كامل الشناوي الذي كتب أحلى الأغاني مثل (لا تكذبي)، و(لست قلبي)، و(يوم مولدي) وغيرها من الأغاني التي تغنى بها أشهر المطربين في الوطن العربي حينما شعر بدنو قدره المحتوم، وهو على فراش المرض كان يخاطب الأيام طالبًا منها أن تتوقف! فكأنه لا يريد أن يلقي القلم من يده. ويذكر الكاتب ناجي العتريس في مقال له بأن «الروائي الراحل خيري شلبي كان غريب الأطوار، حيث يتحول إلى شخص لا يطاق وكثيرًا ما كانت زوجته تنصحه أن يكتب داخل سرداب، لا يرى أحدًا ولا أحد يراه، لذلك استأجر مقبرة خاصة وأنجز أهم رواياته الطويلة فيها، وكان قبل الكتابة يصاب باكتئاب حاد، ويشعر برغبة جامحة في الانتحار»! ويواصل الكاتب قوله عن الأديب خيري بأنه «ما أن يكتب صفحة واحدة حتى يشعر بأن العالم فسيح وبأنه سيتحرر من هذه الحالة المرضية فيعود مكتئبًا من جديد ويواصل الكتابة كما لو كان يقاوم، وحينما ينتهي من الكتابة، ويشعر بالشفاء يبادر بإصلاح ما أفسده الإبداع فيزور أهله وأصدقاءه ويتحول إلى شخص ودود ومرح». ومن هنا يمكن القول بأن هاجس الكتابة لدى بعض الكتاب او الشعراء يجعلهم يسلكون مسلكًا أو يتخذون طقوسًا، يجدون فيها الراحة النفسية للانطلاق في التعبير أو الكتابة، دون أن يتوقف سيلان الحبر لديهم على الورق! إلا بعد أن يدركوا بأنهم قد حققوا المنشود. فمنهم من يصاحب الليل ويجد فيه المتعة للكتابة، حيث يعم الهدوء بالمكان لذا لا يحلو له إمساك القلم إلا بالليل! ومنهم من يجد في النهار الوقت المناسب للكتابة أو الإبداع. أما الليل ففي رأيه بأنه الوقت المناسب للقراءة بل هناك من يحدد حتى لغة الكتاب المراد قراءته ليلاً! فالكاتب عبدالفتاح كيليطو المعروف، يعترف بأنه لا يقرأ بالليل إلا كتابًا باللغة الفرنسية! ومنهم من يحبذ سماع الموسيقى الهادئة عندما يشرع في الكتابة حيث يعتبرها محفزًا له على الإبداع. إذًا هو هاجس قد يضع الكاتب على صفيح ساخن أو يبعث التوتر في أعصابه أحيانًا أو يجعله يسترخي أحيانًا بعد أن دفق ما في داخله على الورق ومع كل هذه المشاعر المختلطة التي يواجهها بين الفينة والأخرى إلا أن البعض قد آل على نفسه أن لا يبعد القلم عن دائرة اهتمامه بل يظل ماسكًا به حتى آخر العمر! لأن الكتابة قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياته أو كيانه.
مشاركة :