تمرّ هذه الأيام حاملة معها ذكرى تأسيس أول وزارة سعودية هي وزارة الخارجية، التي صدر أمر ملكي بتاريخ 16 ديسمبر (كانون الأول) 1930م بتحويل مديرية الشؤون الخارجية إلى وزارة الخارجية وتعيين (الأمير) فيصل بن عبد العزيز وزيراً لها، ونُشر هذا في صحيفة أم القرى يوم 19 ديسمبر 1930م. وعلى الرغم من أن هناك لبساً حول أول وزارة تأسست في عهد الدولة السعودية، فإن المصادر تؤكد أن وزارة الخارجية هي أول وزارة تم تأسيسها في السعودية وتولاها (الملك) الأمير فيصل بن عبد العزيز خلافاً لما يتداول من أن وزارة المالية هي أولى الوزارات وأن الشيخ عبد الله السليمان هو أول وزير. وقد سبّب ذلك الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي بأنه عائد لنقص واضح في تدوين نشأة بعض الكيانات الأهلية والحكومية في السعودية، على الرغم من أنها عملية ميسورة وغير مكلفة. وبمناسبة مرور 91 عاماً على تأسيس أول وزارة في السعودية تنشر «الشرق الأوسط» توثيقاً تاريخياً لميلاد ونشأة «الخارجية» السعودية وتشكيلاتها والتطورات التي مرت بها، إضافة إلى توثيق لسير بعض كبار مسؤولي الوزارة ورواد العمل الدبلوماسي السعودي. السياسة الخارجية وارتباطها بالملك عبد العزيز منذ ما قبل تأسيس الدولة، ارتبطت نشأة السياسة الخارجية (السعودية) بالملك عبد العزيز شخصياً، حيث كان يشرف بنفسه على جميع مهام الشؤون الخارجية. وقبل وجود الهياكل الرسمية، اتخذ من التجار (النجديين) في الخارج، وكلاء له في الدول الخارجية، وكانت تسمى (الوكالة العربية أو النجدية) وذلك قبل ضم الحجاز. في 15 يناير (كانون الثاني) 1927م، باشر فؤاد حمزة عمله وكيلاً لمديرية الشؤون الخارجية، سبق ذلك في سبتمبر (أيلول) 1925م تأسيس المديرية وتعيين الدكتور عبد الله الدملوجي مديراً لها. يصف فؤاد حمزة في مذكراته: «وجدت الخارجية حينما جئت إليها مكونة من غرفتين؛ في إحداهما يجلس المدير وعنده عدد من الكراسي، وغرفة الكتابة وفيها خزانة تضم أوراق الدائرة موضوعة في 7 أضابير فقط...». كانت تلك الغرفتان في مبنى الحكومة المعروف بـ«الحميدية» في حي أجياد بمكة المكرمة، المقر الأول للخارجية السعودية. هنا تكمن أهمية المذكرات والوثائق الخاصة في إلقاء الضوء على تفاصيل دقيقة من التاريخ السياسي والإداري للمملكة العربية السعودية، الذي ما زال في حاجة إلى كثير من البحث والتنقيب والتوثيق لجوانب مهمة منه. وسيتناول هذا البحث جوانب من تاريخ نشأة وزارة الخارجية السعودية وتشكيلاتها كما سيُعرّف بأبرز رجالاتها الذين عاصروا إنشاءها، ولمحات عن بعض شخصياتها ودبلوماسييها خلال المرحلة (1930 إلى 1975م). كما سيتم طرح تساؤلات عن الفترة التي تلت وفاة الملك فيصل في مارس (آذار) 1975م، وتعيين الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشؤون الخارجية لمدة ستة أشهر، وما إذا كان هو فعلاً الوزير الثالث للخارجية السعودية أم أن هناك شخصاً آخر حمل الحقيبة قبله؟ إن المتتبع لتاريخ نشأة أجهزة ومؤسسات الدولة السعودية ليعجب من طريقة توظيف الملك المؤسس لأدوات التنمية السياسية والإدارية وقدرته على استقطاب الخبرات وإشراكهم في تشكيلات الحكومة وقتذاك، التي كان بعضها من ابتكاراته وتفرداته، كمجلس المستشارين الذي مثّل مع الشعبة السياسية وشعبة البرقيات في الديوان الملكي المطبخ السياسي للدولة، وفقاً لوصف الدكتور عبد الرحمن الشبيلي. ورغم أن تاريخ نشوء وتطور البلاط الملكي السعودي بكل دواوينه ومجالسه وشعبه، يحتاج كذلك إلى مزيد من البحث والتوثيق، فإنه يمكن القول إنه بعد ضم الأحساء في مايو (أيار) 1913م، تطورت الاتصالات والعلاقات بالدول الأجنبية المؤثرة آنذاك كالدولة العثمانية وبريطانيا العظمى، فتطورت تشكيلات وأساليب العمل الحكومي بما يتناسب مع الواقع الجديد. ومن أوائل مستشاري الملك في الشؤون السياسية: 1 - الأمير أحمد الثنيان 2 - الدكتور عبد الله الدملوجي 3 - الشيخ إبراهيم بن معمر 4 - الشيخ حافظ وهبة 5 - السيد حمزة غوث قد تكون هذه اللمحات التاريخية مهمة لفهم تطور التنظيمات الحكومية السعودية التي مرت بمراحل مختلفة تبعاً لظروف تطور الدولة، فبعد اكتمال ضم الحجاز عام 1925م، شرع الملك عبد العزيز في تنفيذ المرحلة الثانية من مشروعه الوحدوي والنهضوي ببدء البناء التنظيمي لمؤسسات الدولة، وأُنشئ في العام ذاته عدد من الإدارات والمديريات كالمعارف والصحة والمالية، كما أنشئت مديرية الشؤون الخارجية، وشُكلت من أربع شعب: «السياسية، والإدارية، والحقوقية، والقنصلية»، ونُص على ارتباطها بالملك مباشرة «تكون مديرية الشؤون الخارجية مرتبطة بالمقام الملوكي العالي رأساً، ولكنها تتلقى أوامر النيابة العامة فيما يختص بالشعبتين الإدارية والقنصلية». وتولى الدكتور عبد الله الدملوجي إدارتها منذ تأسيسها في سبتمبر 1925م وحتى استقالته في يونيو 1928م، وتعاقب على إدارتها أصالة ووكالة كل من: 1 - الشيخ يوسف ياسين 2 - الشيخ عبد العزيز العتيقي 3 - الأستاذ فؤاد حمزة ميلاد وزارة الخارجية وتشكيلاتها استمرت المديرية في القيام بأعمال الشؤون الخارجية حتى صدر في 16 ديسمبر 1930م أمر ملكي بإنشاء وزارة الخارجية، ونشرت جريدة أم القرى في عددها رقم (315) الصادر يوم 19 ديسمبر 1930م، بلاغاً عن تشكيل وزارة الخارجية وإسناد منصب الوزير إلى (الملك) الأمير فيصل وتعيين فؤاد حمزة وكيلاً للوزارة. من هذا الأمر يتضح أن وزارة الخارجية هي أول وزارة تستحدث، وأن (الملك) فيصل هو أول من حمل لقب وزير في الحكومة السعودية، خلافاً لما يتداول من أن وزارة المالية هي أقدم الوزارات وأن عبد الله السليمان هو أول وزير، حيث لم تتحول وكالة المالية إلى وزارة المالية إلا في 13 أغسطس (آب) 1932م. منذ ذلك التاريخ بدأت وزارة الخارجية رحلتها وكان مقرها في دار الحكومة بمكة المكرمة، ولها مكتب في جدة يقع في حارة اليمن. وعن نشأة المفوضيات السعودية (السفارات) رسمياً في الخارج، فكانت أولها مفوضية لندن والوزير المفوض حافظ وهبة الذي عُين في 21 يوليو (تموز) 1930م، وكانت مفوضية بغداد هي الثانية بعد لندن حيث تأسست في 21 يونيو (حزيران) 1931م، ثم قنصلية دمشق ونقل إليها رشيد الناصر في 11 مايو 1933م، أما مفوضية مصر فيرأسها فوزان السابق بمسمى القائم بالأعمال وكان تعيينه في أغسطس 1936م بعد استئناف العلاقات السعودية المصرية. ولتعدد مناصب وزير الخارجية (الملك) الأمير فيصل: كان منصب وكيل الوزارة له أهميته وتعاقب عليه فؤاد حمزة ويوسف ياسين، الذي عُين نائباً للوزير. كما كُلف بعمل (نائب الوزير) كل من عبد الله السليمان وحمد السليمان. أما عمل (وكيل الوزارة) فقد تولاه أصالة وتكليفاً وبالنيابة كل من: خير الدين الزركلي ومحمود المرزوقي وطاهر رضوان ومحمد الشبيلي وعلي عوض وعبد الرحمن البسام وأسعد الفقيه ومحمد محتسب وعمر السقاف ومحمد إبراهيم مسعود، إضافة إلى إبراهيم السويل الذي عُين وزيراً للخارجية في عام 1960م، وقد يكون هناك آخرون غيرهم. وتمتد تلك المرحلة حتى أواخر شهر مارس 1975م. أما المقر الرئيس لوزارة الخارجية، فقد انتقل من مبنى الحميدية في مكة إلى جدة وتعددت الروايات حول سنة الانتقال، وشغلت بيت البغدادي في حارة الشام، وبيت درويش في حارة البحر، ثم انتقلت بعد ذلك إلى بناية باطويل الواقعة على شارع المطار القديم. وحين انتقل المقر إلى مبنى الوزارة الواقع أمام (بحيرة الأربعين) في صيف عام 1955م كان عدد موظفي ديوان الوزارة بجدة لا يتعدى 50 موظفاً وميزانيتها 21 مليون ريال. لكن المبنى أصبح أحد أبرز معالم جدة، وتصدرت صورته العملة السعودية من فئة الريال في الستينات الميلادية. وفي عام 1984م، انتقل مقر وزارة الخارجية إلى مدينة الرياض بعد اكتمال إنشاء مبناها في حي الناصرية. في منتصف العمر لقد كانت الخمسة وأربعون عاماً الأولى من عمر «الخارجية» السعودية مرحلة بدايات بناء الدولة وما صاحبها من تطورات، إضافة إلى تشكل نظام عالمي جديد بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت السعودية ممثلة بوزير خارجيتها (الملك) الأمير فيصل من الدول المؤسسة لهيئة الأمم المتحدة عام 1945م، كما أُعيدت صياغة المشهد الإقليمي فتأسست جامعة الدول العربية في العام نفسه، وسعت السعودية من خلال وزارة خارجيتها إلى دعم استقلال الدول العربية ومناصرة القضية الفلسطينية، وكان هناك حالة من عدم الاستقرار في العالم العربي، علاوة على الحرب الباردة، فتبنى الملك فيصل دعوة التضامن الإسلامي وتأسست منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969م، وكان آخر الملفات الكبرى لتلك المرحلة محاولات إيجاد حل عادل للصراع العربي الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973م، وقرار حظر النفط المصاحب لها، فقد توفي وزير الدولة للشؤون الخارجية عمر السقاف في نيويورك وهو يشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة هذه القضية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1974م، تلى ذلك اغتيال الملك فيصل، وهو يستقبل في مكتبه وزير النفط الكويتي في مارس 1975م، وبذلك طويت فصول لم يُدون أكثرها من تاريخ الوزارة المدافعة عن الحقوق العربية والإسلامية والساعية إلى دعم الأمن والسلم في العالم. فصول تتجدد تولى الملك خالد مقاليد الحكم في 25 مارس 1975م، وأصدر يوم 28 مارس 1975م أمراً ملكياً حمل الرقم (أ/52) ونص على أنه «بناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم»، كما أصدر ثلاثة أوامر أخرى بتاريخ 29 مارس 1975م حمل الأول رقم (أ/53) ونصت فقراته على تعيين «الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ووزير الداخلية نائباً أول لرئيس مجلس الوزراء، والأمير عبد الله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء»، والثاني برقم (أ/54) ونص على تعيين «الأمير نايف بن عبد العزيز وزير دولة للشؤون الداخلية وعضواً في مجلس الوزراء»، والثالث برقم (أ/55) ونص على تعيين الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشؤون الخارجية وعضواً في مجلس الوزراء»، وفي أكتوبر من العام نفسه، أصبح الأمير نايف وزيراً للداخلية والأمير سعود وزيراً للخارجية. استكمل سعود الفيصل فصولاً جديدة في تاريخ الخارجية السعودية، وشهدت المرحلة اضطرابات وتحولات عربياً وإقليمياً ودولياً، اختصرها الأمير سعود الفيصل في تصريحه لصحيفة «نيويورك تايمز» عام 2009م: «لم نشهد سوى أوقات شدة وأزمات... ولا نتوقع إلا أزمنة صراعات...»! ورغم كل تلك الأجواء المضطربة والمراحل العصيبة، فإن الحكومة السعودية جابهت تلك الأزمات من خلال سياستها الهادئة ودبلوماسيتها الفاعلة، وحكمة قيادتها ودعمها لكل جهد يدعم استقرار المنطقة. أما على صعيد تشكيلات الوزارة وآليات عملها الداخلية بعد عام 1975م، فقد تطورت، وبرزت وجوه دبلوماسية جديدة، نقلت العمل الدبلوماسي السعودي إلى آفاق أرحب، ما يتطلب بحثاً وتوثيقاً لهذه المرحلة وما تلاها، وللجوانب الأخرى التي لم يتم التطرق لها في هذا البحث. غير أن أبرز من تولى منصب وزير الخارجية بالنيابة طوال فترة تولي الأمير سعود، هو الأمير سلطان بن عبد العزيز. كما تضم قائمة وزراء الخارجية كلاً من عادل بن أحمد الجبير(2015م)، والدكتور إبراهيم بن عبد العزيز العساف (2018م)، والأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله (2019م). إلا أن هناك تساؤلاً ما زال مطروحاً، وهو من كان وزير الخارجية خلال الأشهر الستة التي تولى فيها الأمير سعود الفيصل منصب وزير دولة للشؤون الخارجية (مارس إلى أكتوبر 1975م)؟ حيث إن موقع وزارة الخارجية الرسمي على شبكة الإنترنت وجميع المصادر الأخرى تشير إلى أنه هو الوزير الثالث للخارجية السعودية، وحيث إن النظام الذي يحكم هذا الموضوع هو نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (380) وتاريخ 22/10/1377هـ الموافق 11/5/1958م، وحيث إن الأمر الملكي رقم (أ/52) - الذي أصدره الملك خالد - نص على أن «يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم»، وهذا لا يشمل رئيس المجلس إذ هو محدد بنص المادة (السابعة) من النظام الآنف ذكره، ولا نواب رئيس المجلس الذين صدر أمر ملكي مستقل بتعيينهم برقم (أ/53)، وحيث إن المرسوم الملكي رقم (27) الذي أصدره الملك فيصل عند توليه الحكم (2 نوفمبر 1964م)، نص على أن «تبقى الوزارة الحالية بتشكيلها الحاضر» وكان الملك فيصل يرأسها ويتولى فيها منصب وزير الخارجية، ما يعني أن رئيس مجلس الوزراء استمر وزيراً للخارجية، وبما أنه لم تتم إعادة تشكيل المجلس طوال فترة حكم الملك فيصل (1964 إلى 1975م) رغم تعيين وزير دولة للشؤون الخارجية وعضو في مجلس الوزراء، فهل يمكن القول إن الملك خالد احتفظ بمنصب وزير الخارجية في ضوء توليه منصب رئيس مجلس الوزراء؟ أي أن الملك خالد حمل حقيبة وزارة الخارجية ولم يحمل لقب الوزير، وذلك مثلما كانت الحال بالنسبة للملك فيصل بعد توليه الحكم، إذ لم يُذكر اسمه أو يعمم كوزير للخارجية كونه ملكاً ورئيساً لمجلس الوزراء. (تفاصيل أوسع مع سير وتاريخ عدد من رواد العمل الدبلوماسي السعودي في موقع الشرق الأوسط www.aawsat.com ) * كاتب وباحث سعودي
مشاركة :