لم تكن نظرية المؤامرة بحاجة للازدهار في عالمنا العربي عندما سقطت الطائرة الروسية في سيناء، وظهر من يقول إنها مؤامرة غربية ضد روسيا، فزعم المؤامرة رائج تجاه أكبر الأحداث في المنطقة، منذ أحداث 11 سبتمبر حتى ظهور داعش مروراً باندلاع «الربيع العربي».. ما الأدلة على الادعاء بوجود مؤامرة غربية لإسقاط الطائرة الروسية؟ إنها قاعدة «من المستفيد؟» التي تقفز مباشرة من عنوان الحدث إلى الاستنتاج متخطية كل الأدلة المادية عبر المخيلة الشعبية وفقاً لأهواء إيديولوجية أو مصالح سياسية أو نزعات نفسية. مثل هذه الطريقة في الاستنتاج يمكن أن تناقض نفسها، كظهور من اعتقد بوجود مؤامرة بريطانية - روسية ضد مصر! بالنسبة للدراسات العلمية هذا ليس مفاجئاً، فقد وجدت دراسة ميشيل وود وآخرون (2012) أن مروجي نظريات المؤامرة يعتقدون في كثير من الأحيان بمؤامرات مزدوجة تناقض بعضها البعض. على سبيل المثال، وجدت الدراسة أن الأشخاص الذين يعتقدون أن أسامة بن لادن اعتقل حياً من قبل الأمريكيين هم أنفسهم أيضاً عرضة للاعتقاد أن بن لادن قتل فعلاً قبل الغارة عليه. عموماً، تعد نظرية المؤامرة من ناحية المنهج العلمي أقرب للخرافة ما لم تستند إلى أدلة مادية، أما إذا استندت إلى أدلة مادية قابلة للدحض وغير قابلة للتحقق فهي علم زائف أو معرفة تفتقر للمصداقية، ولا سيما أن أغلب نظريات المؤامرة المطروحة عن الأحداث الكبرى تستند على مرجعيات غير موثوقة. في دراسة شاملة لأنديريا بولاتور (2015) جمعت أشهر 15 نظرية مؤامرة في العالم، مثل سيطرة الماسونية على العالم، أحداث 11 سبتمبر، مقتل الرئيس كيندي، وتخليق فيروس الإيدز... كان من النتائج اللافتة للنظر ندرة المصادر الأكاديمية أو روابط النت ذات الموثوقية الجيدة والجودة العالية في منهج البحث، إِذْ وجدت أن المصادر الموثوقة في نتائج البحث كانت أقل من 5 بالمئة، بينما 70 في المئة كانت من مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات الشخصية واليوتيوب ومواقع الفضائح، والبقية من الصحف وقنوات التلفزة. من الناحية المنهجية، يرجع أغلب الأكاديميين والمفكرين نظرية المؤامرة إلى التحليل الشعبي مقابل التحليل المؤسسي، ومن ثم يخرجها من دائرة المنهج العلمي. لكن ذلك لا يعني إخراجها من دائرة المعرفة. فما هو المرجع المعرفي الذي تستند إليه نظرية المؤامرة؟ هما مرجعان أساسيان: قاعدة «الحدس بحكم الخبرة المعرفية» (rule of thumb)، وقاعدة «من المستفيد؟».. كلتا القاعدتين جاهزة مسبقاً لتفسير الأحداث. توضح ذلك دراسة أصدرتها جمعية علم النفس البريطانية (2005م). عَرضت الدراسة على مجموعة من الناس أربعة تصورات حدثت لرئيس أجنبي (أ) تم اغتياله بنجاح، (ب) أصيب بجروح لكنه نجا، (ج) على قيد الحياة مع الجروح لكنه توفي بأزمة قلبية في وقت لاحق، (د) خرج سالماً.. ووضعت لهم عدة احتمالات للحدث.. أغلب الأشخاص تحت الدراسة أعطوا إجابة بوجود مؤامرة منظمة لقتل الرئيس أكثر من الاحتمالات الأخرى، رغم أن كل الأدلة المتاحة للاحتمالات الأخرى وضعت لهم على قدم المساواة. هذه الدراسة وجدت أن أغلب الإجابات استندت الى تطبيق قاعدة «الحدس بحكم الخبرة» التي تتوقع أن حدثاً هاماً هو نتيجة مؤامرة. وتوضح الدراسة أن ذلك يشير إلى أنه من الممكن أن بعض التحيز المعرفي البشري الأساسي يتم إسقاطه على أحداث معينة. تخلص الدراسة إلى أن ثمة صلة مع حالة الإسقاط النفسي، والميل الوراثي لدى البشر لإيجاد أنماط مسبقة للأحداث مما يتيح المجال لاختراع مؤامرة في أي حدث هام. القاعدة المعرفية الأخرى «من المستفيد؟» تطبق بانحياز معرفي مسبق لحل الغموض الذي يكتنف بعض الأحداث. هذا الميل لكشف الدوافع الخفية لحدث ما قد يكون سمة عالمية للوعي البشري. نظرية المؤامرة التي تعتمد قاعدة «من المستفيد؟» تعد فكرة سطحية حتى عند المفكرين المقتنعين بنظرية المؤامرة (وهم قلة ضئيلة)، لأنّها تقفز مباشرة إلى الاستنتاج بأن المستفيد هو المسؤول السري عن تنفيذ الحدث أو التأثير فيه. بينما نظرية المؤامرة العميقة تبدأ بحدس شكي، ثم تتعمق بحثاً عن أدلة واقعية يمكن التحقق منها (روبرت ولش؛ موراي روثبارد). إذن، ليست المشكلة في انتشار نظرية المؤامرة في المجتمعات العربية، فهي سمة بشرية منتشرة شعبياً في أغلب ثقافات العالم، لكن المشكلة عندما يتبناها المفكرون والمثقفون العرب على نطاق واسع. المشكلة أن وصف الأحداث تآمراً يرضينا عاطفياً عندما نضع الأحداث في سياق افتراضي سهل وسريع بطريقة خطية واضحة وليس كما هو الواقع المتشابك المعقد للأحداث. نظرية المؤامرة هنا ترضي الذات لأنّها تلقي المسؤولية على الآخرين، وتبرر عجزها بلا نقد ذاتي أو محاولة للفهم والتغيير.. وتذكر كثير من الدراسات أن نظريات المؤامرة تحدث بشكل متكرر أكثر في المجتمعات التي تعاني من التهميش الاجتماعي أو عدم التمكين السياسي. في دراسة تفسيرية لسلوك الألمان الذي عانوا من «التحيز» السياسي ضدهم بعد الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدات تنقص من سيادتهم، وجد المؤرخ الاجتماعي الألماني هولغر هيرفج «أن الأحداث الأكثر أهمية هي أصعب للفهم، لأن اهتمام الناس ينجذب أكثر نحو صُنَّاع الخرافة والدجل»، مشيرا بذلك إلى الدعوى النازية بوجود مؤامرة عالمية ضد ألمانيا. لكن قد تنشأ نظريات المؤامرة حين تكون المعلومات ضئيلة أو عدم توافق الأدلة المتوافرة مع الرواية الشائعة أو الرسمية للأحداث. هنا، قد تسلط نظريات المؤامرة الضوء على «البقع المظلمة» والفراغات في التفسيرات الشائعة أو الرسمية للأحداث. وعلى العكس من ذلك قد تنشأ نظريات المؤامرة نتيجة التخمة من المعلومات، لذا فهي رائجة في الثقافة الشعبية الأمريكية؛ يطلق الكاتب الأمريكي كريستوفر هيتشنز على نظريات المؤامرة عبارة «أبخرة العادم الديمقراطية»، والنتيجة الحتمية لكمية كبيرة من المعلومات المتداولة بين الناس، كما يحصل في الإنترنت وما يصاحبها من انفجار المعلومات. الخلاصة التي يمكن أخذها من الدراسات العلمية هي أنه إذا كانت المؤامرات موجودة فعلاً، فهي نادراً ما تؤثر في حركة التاريخ؛ وأقصى ما تصنعه هو التأثير الهامشي من وقت لآخر، فحركة التاريخ تتم من قبل قوى متعددة وبنى متشعبة من الجماعات البشرية والمؤسسات المتنوعة.. إنها نتيجة أعمال يمكن تلمسها في الواقع الظاهري، وليس من أيد خفية تصنعها أخيلة أذهاننا.
مشاركة :