الأزمة الجديدة التى تواجهها الدولة المصرية بعد الإنفجار الذى أسقط الطائرة الروسية من إرتفاعها الشاهق وبركابها المائتين وأربع وعشرين تلقي بظلالها الكثيفة على الإقتصاد والمجتمع في مصر، وتقتضي لذلك معالجة جادة ومستنيرة من جانب الدولة والمواطنين، ولكن ردود الفعل التى تسابقت بعد الحدث الغادر هي أقل بكثير مما هو مطلوب للتقليل من آثاره والخروج منها في أقرب وقت ممكن، بل والإستعداد لتجنب وقوع أعمال مماثلة في المستقبل وتوقي النتائج السلبية لتكرار مثل هذه الأحداث في دول صديقة، سواء في العالم العربي أو خارجه، مثلما جرى في فرنسا ليلة الجمعة الماضية. وأول ما يجب أن نفعله هو الحفاظ على رباطة الجأش والتعقل في فهم ما جرى وعدم استبعاد أى من الأسباب المحتملة لما وقع في سماء سيناء، والإبتعاد عن نظرية المؤامرة في تفسير ردود الفعل على هذا الحدث. النتيجة المؤكدة لسقوط الطائرة الروسية هي آثارها الإقتصادية من توقف السياح عن القدوم إلى مصر من الدول التى كان ملايين من مواطنيها يجيئون إليها بقصد التمتع بسواحلها المشمسة أو زيارة آثارها، وما يترتب علي ذلك من مزيد من الإنخفاض في حصيلة البلاد من النقد الأجنبي، وربما تضاؤل تدفق الإستثمارات الأجنبية، وذلك في وقت هبط فيه إحتياطى النقد الأجنبي إلى أدنى مستوياته وأخفقت الصادرات في الإرتفاع إلى مستوى يقلل من حجم العجز في الميزان التجاري، والذي فشلت كل مصادرنا من النقد الأجنبي في تقليل العجز في ميزان المدفوعات، الذى يتجاوز ست بلايين من الدولارات، وخصوصا أنه ليس من المتوقع أن تعوض قناة السويس إنخفاض حصيلة النقد الأجنبي بسبب ركود التجارة العالمية، ولا أن تحصل مصر على مزيد من العون الخليجي بينما تستمر أسعار النفط في الهبوط في الأسواق العالمية. هذا هو أخطر الآثار المترتبة علي هذا الحدث، ولكن من المستبعد أن يؤدى هذا الحدث إلى تغير في علاقات مصر الدولية وخصوصا مع الدول الكبرى في الغرب أو الشرق. سياسات هذه الدول تقوم على المصلحة، ولا مصلحة لها في وقف التعامل مع الحكومة المصرية التى تمثل أكبر دولة في الشرق الأوسط من حيث عدد سكانها، والتى تجد نفسها في خندق واحد مع هذه الدول في الحرب ضد الإرهاب، حتى وإن كان هناك فتور في العلاقات الشخصية بين قادة بعض الدول الغربية والقادة المصريين بسبب صورة الحكومة المصرية في الإعلام الغربي فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان. *** ولذلك فالمطلوب ممن يديرون الأمور في الحكومة المصرية ألا يستسلموا لحديث المؤامرة الذى طغي على تغطية الإعلام المصرى للنتائج التى ترتبت على هذا الحادث، لأنه أمام حديث المؤامرة لن يملك المسئولون إذا ما صدقوه سوى أن يقفوا مكتوفي الأيدى في إنتظار ضربات أخرى من المتآمرين، ويقاطعوا الإتصالات مع قادة الدول المتآمرة وخصوصا كلا من رئيس الوزراء البريطاني والرئيس الأمريكي، ولا أعرف ما إذا كان الرئيس الروسي سيدخل أيضا في قائمة المتآمرين المتخيلين على مصر بعد قرار السلطات الروسية بوقف رحلات الطيران بين البلدين. لحسن الحظ أن المسئولين المصريين لا يبدو أنهم يصدقون حديث المؤامرة، فهم لا يتوقفون عن التعامل مع قادة ومواطني الدول "المتآمرة" في نظر الإعلام المصرى. الرئيس السيسي إلتقى برئيسة شركة لوكهيد التى تنتج الطائرات الحربية الأمريكية، وتطلع إلى مزيد من التعاون معها، كما كان وزير البحرية الأمريكي في زيارة للقاهرة خلال الأسبوع الماضي، وإجتمع مع وزير الدفاع وعدد من القادة العسكريين. وإذا كانت مشاعر الأسف على إنخفاض أعداد السياح القادمين إلى شرم الشيخ قد دفعت قطاعات عديدة من المواطنين المصريين إلى إبداء تضامنهم مع العاملين في المدينة سواء بتعمد زيارتها في هذه الأوقات الصعبة، أو بدعوة الجاليات المصرية في الخارج للقدوم إليها لقضاء الإجازات، أو بتخفيض أسعار الطيران إلى هذه المدينة، إلا أن رد الفعل الحكومي مدهش في عدم تناسبه مع خطورة الحدث. الأمور تمضى وكأن شيئا على هذه الدرجة من الآثار السلبية لم يحدث، وذلك باستثناء الدعوة لإجتماع مجلس الوزراء في المدينة، وذلك للتأكيد على أن المدينة آمنة وأنها مفتوحة لاستقبال أعداد كبيرة من السياح كما كان الحال في الماضى. وليس من المعروف ما إذا كان صدى هذه الزيارات قد وصل إلى الإعلام الغربي أو الروسي المستهدف أساسا بمثل هذه الرسائل الضمنية. *** لقد طلب الرئيس من الحكومة تشكيل لجان لإدارة أزمات المرافق عندما تهبط أمطار غزيرة وتتعرض بعض بقاع الوطن لسيول أو كوارث طبيعية مثلما جرى في الإسكندرية ومحافظتي البحيرة ومرسي مطروح وفي وادى النطرون. لا شك في خطورة هذه الأحداث ومأساويتها وكشفها عن الفشل الكبير لأجهزة الدولة في توقي الأزمة والإستعداد المناسب لمواجهتها. ولكن ألا تمثل حادثة سقوط الطائرة الروسية أزمة أبعد مدى وتستحق إهتماما مماثلا على الأقل؟ ألا تضرب الإقتصاد المصرى في وقت تشتد فيه حاجته إلى موارد إضافية تمثل السياحة واحدا من أهم روافدها؟ ألا يصيب هذا الحادث بكل ما قيل حوله عن غياب الأمان في المطارات المصرية سمعة مصر وسمعة أجهزتها الأمنية في مقتل، وهى التى لم تكن موضع غرام خاص من جانب الإعلام الغربي؟ لم أكن في مصر عندما وقع هذا الحادث واجتهدت لمعرفة رد فعل الحكومة. طبعا زار رئيس الوزراء ومعه وزير الطيران وبعض قادة القوات المسلحة موقع سقوط الطائرة. وأدلى كل من الرئيس ووزير الخارجية بعض التصريحات. وتوقف الأمر عند ذلك في إنتظار أن يأتى الفرج من السماء ويخرج تقرير لجنة التحقيق معلنا للعالم كله، وعلى عكس التوقعات كلها، بأن الحادث ناجم عن عطل فنى ألم بالطائرة، ومن ثم تعود أفواج السياح إلى التدفق إلى كل المواقع السياحية في مصر، وتستعيد أجهزة الدولة هيبتها التى أطاحت بها الصحافة الغربية وخصوصا البريطانية . يستحق هذا الحادث أن تتألف له لجنة لإدارة الأزمة تتشكل على أعلى مستوى، وتواصل اجتماعاتها بانتظام إلى حين تنجلي كل الآثار الخطيرة التى تترتب على هذا الحدث. يتولى رئيس مجلس الوزراء رئاسة هذه اللجنة ويشترك في عضويتها وزراء الخارجية والدفاع والداخلية والطيران والمالية والسياحة ومحافظ البنك المركزي ورؤساء جهازى المخابرات العامة والأمن الوطني ورئيس الهيئة العامة للإستعلامات ومحافظو شمال وجنوب سيناء والأقصر وأسوان. تجتمع هذه اللجنة أسبوعيا لمتابعة آثار هذا الحادث على علاقات مصر بالدول الأجنبية وعلى ٍسياحتها وإقتصادها، وتتخذ الخطوات الضرورية للحد من الآثار السلبية المترتبة عليه، وتجتهد لوضع سياسات بديلة للتعويض عما ينجم عنه من خسائر، وتقدم هذه البدائل لرئيس الجمهورية لإعلامه بها وللأمر بتنفيذها إذا كانت تخرج عن سلطة رئيس الوزراء. ولا تكتفي هذه اللجنة باتخاذ القرارات، وإنما تتابع تنفيذها من خلال ممثلين للوزارات والهيئات الممثلة فيها يجتمعون تقريبا بصفة يومية لتكون لديهم آخر المعلومات عن تطور الموقف في كافة المجالات ذات الصلة ومدى التقدم في تنفيذ قرارات اللجنة. وحتى لا تسقط اللجنة في فخ التقارير الحكومية التى ترسم صورة وردية لما يجرى حول مصر، وحتى لا تستبعد أى إحتمال فيما يتعلق بالأخطار المحيطة بالأمن القومي فربما تضم إلى عضويتها واحدا أو إثنين من خبراء العلاقات الدولية المدنيين من المشهود لهم بالشجاعة والعلم والإستقلال في الرأي ليحثا اللجنة على ألا تستبعد أيا من إحتمالات تهديد الأمن الوطني مهما بدا من قلة تحققه. ولعل المهمة الأولي التى يجب أن تضعها اللجنة على جدول أعمالها هى كيف تتعامل الحكومة والشعب فى مصر مع إعلان تحقيق اللجنة الدولية التى تشكلت لدراسة أسباب حادث الطائرة الروسية بأن الحادث ناجم عن عمل إرهابي إنطلق من مطار شرم الشيخ. سنسعد جميعا لو جاء تقرير اللجنة بغير ذلك، ولكن مهمة لجنة كهذه هي أن تحتاط لكل الإحتمالات، فإذا كان أسوأ هذه الإحتمالات هو الذى ستخرج به اللجنة الدولية ، فسنكون على الأقل مستعدين للتعامل مع آثاره على أحسن وجه.
مشاركة :