أولوية العاطفي على المعرفي في «غُربة بطعم كارتالا» رحـلـة مـن الأحـسـاء إلـى جزر الـقـمـر للسـعـودي الـشـاعـر والـروائي عـبدالله الخضير

  • 1/8/2022
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

من‭ ‬بين‭ ‬الصّيغ‭ ‬السّائدة‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬السّفر‭ ‬إلى‭ ‬نصوص‭ ‬رحلية‭ ‬توجد‭ ‬صيغتان‭ ‬شهيرتان‭:‬ ‭ ‬الأولى‭: ‬تستنسخ‭ ‬بعض‭ ‬الأعمال‭ ‬الرحلية‭ ‬بأمانة‭ ‬عبر‭ ‬رحلة‭ ‬خطية‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬مسار‭ ‬ذهاب‭ ‬وعودة‭ ‬الرحالة،‭ ‬وتكرّست‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬النصوص‭ ‬الرحلية‭ ‬التقليدية‭ ‬كرحلة‭ ‬ابن‭ ‬جبير، الثانية‭: ‬يختار‭ ‬البعض‭ ‬الآخر،‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬بناء‭ ‬تيميا‭ ‬يلخص‭ ‬فعل‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التيمات‭ ‬تحضنها‭ ‬سرود‭ ‬صغرى،‭ ‬تجسّر‭ ‬بينها‭ ‬ذات‭ ‬الرحالة‭ ‬في‭ ‬علاقاتها‭ ‬بأوجهها‭ ‬المختلفة‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬وتحضر‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬النصوص‭ ‬الرحلية‭ ‬المعاصرة‭ ‬التي‭ ‬تروم‭ ‬تكسير‭ ‬خطية‭ ‬بنائها‭ ‬السردي‭. ‬ اختار‭ ‬الكاتب‭ ‬السعودي‭ ‬عبدالله‭ ‬الخضير‭ ‬الصيغة‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬نصه‭ ‬الرحلي‭ ‬‮«‬غُربة‭ ‬بطعم‭ ‬كارتالا‭ ‬رحلة‭ ‬من‭ ‬الأحساء‭ ‬إلى‭ ‬جزر‭ ‬القمر‮»‬،‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬نضد‭ ‬للنشر،‭ ‬السعودية،‭ ‬2021،‭ ‬كرّسها‭ ‬لجُزر‭ ‬القمر‭ ‬التي‭ ‬أقام‭ ‬فيها‭ ‬مدة‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬متقطعة‭ (‬ما‭ ‬بين‭ ‬2004‭ ‬و2008‭) ‬في‭ ‬إطار‭ ‬العمل‭ ‬كمدرس‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬موفدٍ‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬التعليم‭ ‬السعودية‭. ‬فرض‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار‭ ‬الفاصل‭ ‬الزمني‭ ‬الكبير‭ ‬بين‭ ‬فعل‭ ‬السفر‭ ‬وزمن‭ ‬كتابته‭ ‬ونشره‭ (‬اثنتي‭ ‬عشرة‭ ‬سنة‭) ‬بعد‭ ‬تردد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الكاتب‭.‬ حاول‭ ‬الكاتب،‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬تردد‭ ‬بخصوص‭ ‬القالب‭ ‬الشكلي‭ ‬الذي‭ ‬سيعطيه‭ ‬لنصه‭ ‬الرّحلي،‭ ‬أن‭ ‬ينقل‭ ‬لنا‭ ‬لحظات‭ ‬إنسانية‭ ‬من‭ ‬فترات‭ ‬إقامته‭ ‬بدولة‭ ‬جزر‭ ‬القمر‭ ‬بأفراحها‭ ‬وأحزانها‭ ‬اليومية،‭ ‬والتي‭ ‬تعكس‭ ‬دهشته‭ ‬من‭ ‬مشاهداته‭ ‬حينا،‭ ‬وتكشف‭ ‬حينا‭ ‬آخر‭ ‬عن‭ ‬انفعالاته‭ ‬وعواطفه‭ ‬تُجاه‭ ‬ذاته‭ ‬بمواقفها‭ ‬وسلوكياتها‭ ‬وهول‭ ‬الغربة‭ ‬ووقعها‭ ‬على‭ ‬نفسيته‭ ‬أولا،‭ ‬وتُجاه‭ ‬مُحيطه‭ ‬الطبيعي‭ (‬البحر،‭ ‬المناخ،‭ ‬الغابات‭ ‬والأشجار‭ ‬والنباتات‭ ‬والفواكه‭ ‬والزهور‭ ‬وبركان‭ ‬كارتالا‭...) ‬ثانيا،‭ ‬ونحو‭ ‬محيطه‭ ‬البشري‭ ‬حيث‭ ‬يقيم؛‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬والعمل‭ ‬والشارع‭ ‬والأسواق‭ ‬وصالات‭ ‬الرياضة‭ ‬والمطاعم‭ ‬والإدارات‭ ‬وفي‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭ ‬ثالثا،‭ ‬وما‭ ‬سببه‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬من‭ ‬مواقف‭ ‬محرجة‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يخرج‭ ‬منها‭ ‬بحكمته‭ ‬وتبصره،‭ ‬صبغت‭ ‬نصه‭ ‬ببعد‭ ‬طرائفي‭ ‬تعكسه‭ ‬بعض‭ ‬العناوين‭ ‬الفرعية‭ ‬للنص‭ (‬فوبيا‭ ‬البنطلون،‭ ‬تزوجت‭ ‬فرنسية،‭ ‬المعلمة‭ ‬الفرنسية‭ ‬شانتال‭...)‬،‭ ‬وتُجاه‭ ‬أفْراد‭ ‬أسرته‭ ‬الصغيرة‭ ‬والكبيرة‭ ‬رابعا؛‭ ‬إذ‭ ‬ظل‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬وثيق‭ ‬بزوجته‭ ‬وأبنائه‭ ‬ووالدته‭ ‬وإخوته،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يحمله‭ ‬له‭ ‬هذا‭ ‬الارتباط‭ ‬من‭ ‬أخبار‭ ‬تتراوح‭ ‬هي‭ ‬الأخرى‭ ‬بين‭ ‬الفرح‭ ‬والحزن‭ ‬كان‭ ‬أسوؤها‭ ‬خبر‭ ‬وفاة‭ ‬والدته‭ ‬في‭ ‬غيابه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬مقيما‭ ‬بجزر‭ ‬القمر‭. ‬ ‭ ‬سمح‭ ‬هذا‭ ‬التوتر‭ ‬بحضور‭ ‬كبير‭ ‬للمحكيات‭ ‬الصغرى‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬التي‭ ‬نسجها‭ ‬الكاتب‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الكائنات‭ ‬البشرية‭ ‬والتي‭ ‬أثرت‭ ‬في‭ ‬نفسيته،‭ ‬وأثّرت‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نصه‭ ‬الرحلي‭ ‬وأبعدته‭ ‬عن‭ ‬السرد‭ ‬الخطي‭ ‬المعهود‭ ‬في‭ ‬أغلب‭ ‬النصوص‭ ‬الرحلية‭ ‬التقليدية‭ ‬وجعلته‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬نصوص‭ ‬سردية‭ ‬صغرى‭ ‬تستعيد،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬شذرات‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬طبيعة‭ ‬وناس‭ ‬جزر‭ ‬القمر‭. ‬أغنتها‭ ‬أحداث‭ ‬ملموسة‭ ‬عاشها‭ ‬الكاتب‭ (‬إصابته‭ ‬بالملاريا،‭ ‬ثوران‭ ‬بركان‭ ‬كارتالا،‭ ‬وفاة‭ ‬والدته‭...)‬،‭ ‬أصبحت‭ ‬بمثابة‭ ‬ذكريات‭ ‬محرضة‭ ‬على‭ ‬الكتابة،‭ ‬فتغدو‭ ‬في‭ ‬المحكي‭ ‬المكتوب‭ ‬بوعي‭ ‬تجربة‭ ‬مهمّة،‭ ‬رغب‭ ‬الكاتب‭ ‬جاهدا‭ ‬في‭ ‬حفظها‭ ‬من‭ ‬الزوال،‭ ‬ونقلها‭ ‬بما‭ ‬أوتي‭ ‬من‭ ‬قدرات‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬إلى‭ ‬قارئه‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬عتبة‭ ‬تقديمه‭ ‬لنصه‭ ‬الرحلي‭.‬ لا‭ ‬يتعلّق‭ ‬الأمر،‭ ‬إذن‭ ‬في‭ ‬‮«‬غُربة‭ ‬بطعم‭ ‬كارتالا‭ ‬رحلة‭ ‬من‭ ‬الأحساء‭ ‬إلى‭ ‬جزر‭ ‬القمر‮»‬،‭ ‬بمحْكي‭ ‬مسترسل‭ ‬ومتواصل،‭ ‬وإنما‭ ‬جاء‭ ‬مبنيا‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬شذرات‭ ‬تستعيد‭ ‬ذكريات‭ ‬ظلّت‭ ‬موشُومة‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الكاتب‭ ‬بسبب‭ ‬جدّتها‭ ‬وطرافتها‭ ‬أولاً‭ ‬ووقْعها‭ ‬العاطفي‭ ‬في‭ ‬نفْس‭ ‬الكاتب‭ ‬ثانيا،‭ ‬قدّمت‭ ‬لنا‭ ‬محكيات‭ ‬صغرى‭ ‬عن‭ ‬إقامة‭ ‬الكاتب‭ ‬بجزر‭ ‬القمر،‭ ‬فرضها‭ ‬الفاصل‭ ‬الزمني‭ ‬بين‭ ‬فعل‭ ‬الرحلة‭ ‬وزمن‭ ‬كتابتها‭.‬ أدى‭ ‬حضور‭ ‬هذه‭ ‬البنية‭ ‬النفسية‭ ‬الناظمة‭ ‬لنص‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬الخضير‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬إعطاء‭ ‬أولوية‭ ‬لنقل‭ ‬المعلومات‭ ‬والمعارف‭ ‬حول‭ ‬جزر‭ ‬القمر‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬يعدمها‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ (‬عن‭ ‬سكّان‭ ‬جزر‭ ‬القمر‭ ‬وعاداتهم‭ ‬وثقافتهم‭ ‬وأخلاقهم‭ ‬وأحوالهم‭ ‬السياسية‭ ‬والدينية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬عبّر‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬عن‭ ‬إعجابه‭ ‬بها،‭ ‬وبشكل‭ ‬خاص‭ ‬افتتانه‭ ‬بهدوء‭ ‬القمريين‭ ‬وطيبتهم‭ ‬وتعلقهم‭ ‬بالإسلام‭ ‬وأخلاقهم‭ ‬الحميدة؛‭ ‬أبرزها‭ ‬الشعور‭ ‬بالأمن‭ ‬والأمان‭ ‬بينهم‭ ‬وتقبلهم‭ ‬الآخر‭ ‬وسرعة‭ ‬التعايش‭ ‬معه‭. ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النص‭ ‬الرحلي،‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬التقاط‭ ‬الحالات‭ ‬النفسية‭ ‬للكاتب‭ ‬في‭ ‬محطات‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬مقامه‭ ‬في‭ ‬جزر‭ ‬القمر‭. ‬وبذلك‭ ‬يعطي‭ ‬الكاتب‭ ‬الأولوية‭ ‬للوظيفة‭ ‬العاطفية‭ ‬على‭ ‬الوظيفة‭ ‬المعرفية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نصه‭ ‬الرحلي‭ ‬هذا‭. ‬

مشاركة :