من بين الصّيغ السّائدة في تحويل السّفر إلى نصوص رحلية توجد صيغتان شهيرتان: الأولى: تستنسخ بعض الأعمال الرحلية بأمانة عبر رحلة خطية في المكان، مسار ذهاب وعودة الرحالة، وتكرّست هذه الصيغة بشكل كبير في النصوص الرحلية التقليدية كرحلة ابن جبير، الثانية: يختار البعض الآخر، على العكس من ذلك، بناء تيميا يلخص فعل السفر في مجموعة من التيمات تحضنها سرود صغرى، تجسّر بينها ذات الرحالة في علاقاتها بأوجهها المختلفة مع الآخر، وتحضر هذه الصيغة في كثير من النصوص الرحلية المعاصرة التي تروم تكسير خطية بنائها السردي. اختار الكاتب السعودي عبدالله الخضير الصيغة الثانية في نصه الرحلي «غُربة بطعم كارتالا رحلة من الأحساء إلى جزر القمر»، الصادرة عن دار نضد للنشر، السعودية، 2021، كرّسها لجُزر القمر التي أقام فيها مدة أربع سنوات متقطعة (ما بين 2004 و2008) في إطار العمل كمدرس للغة العربية موفدٍ من وزارة التعليم السعودية. فرض هذا الاختيار الفاصل الزمني الكبير بين فعل السفر وزمن كتابته ونشره (اثنتي عشرة سنة) بعد تردد كبير من الكاتب. حاول الكاتب، بعد طول تردد بخصوص القالب الشكلي الذي سيعطيه لنصه الرّحلي، أن ينقل لنا لحظات إنسانية من فترات إقامته بدولة جزر القمر بأفراحها وأحزانها اليومية، والتي تعكس دهشته من مشاهداته حينا، وتكشف حينا آخر عن انفعالاته وعواطفه تُجاه ذاته بمواقفها وسلوكياتها وهول الغربة ووقعها على نفسيته أولا، وتُجاه مُحيطه الطبيعي (البحر، المناخ، الغابات والأشجار والنباتات والفواكه والزهور وبركان كارتالا...) ثانيا، ونحو محيطه البشري حيث يقيم؛ في السكن والعمل والشارع والأسواق وصالات الرياضة والمطاعم والإدارات وفي الحياة العامة ثالثا، وما سببه له في بعض الأحيان من مواقف محرجة استطاع أن يخرج منها بحكمته وتبصره، صبغت نصه ببعد طرائفي تعكسه بعض العناوين الفرعية للنص (فوبيا البنطلون، تزوجت فرنسية، المعلمة الفرنسية شانتال...)، وتُجاه أفْراد أسرته الصغيرة والكبيرة رابعا؛ إذ ظل الكاتب على اتصال وثيق بزوجته وأبنائه ووالدته وإخوته، وما كان يحمله له هذا الارتباط من أخبار تتراوح هي الأخرى بين الفرح والحزن كان أسوؤها خبر وفاة والدته في غيابه حين كان مقيما بجزر القمر. سمح هذا التوتر بحضور كبير للمحكيات الصغرى الناتجة عن هذه العلاقات التي نسجها الكاتب مع هذه الكائنات البشرية والتي أثرت في نفسيته، وأثّرت في بناء نصه الرحلي وأبعدته عن السرد الخطي المعهود في أغلب النصوص الرحلية التقليدية وجعلته عبارة عن نصوص سردية صغرى تستعيد، من خلال ما تبقى في الذاكرة، شذرات من هذه العلاقات مع طبيعة وناس جزر القمر. أغنتها أحداث ملموسة عاشها الكاتب (إصابته بالملاريا، ثوران بركان كارتالا، وفاة والدته...)، أصبحت بمثابة ذكريات محرضة على الكتابة، فتغدو في المحكي المكتوب بوعي تجربة مهمّة، رغب الكاتب جاهدا في حفظها من الزوال، ونقلها بما أوتي من قدرات على الكتابة إلى قارئه كما جاء في عتبة تقديمه لنصه الرحلي. لا يتعلّق الأمر، إذن في «غُربة بطعم كارتالا رحلة من الأحساء إلى جزر القمر»، بمحْكي مسترسل ومتواصل، وإنما جاء مبنيا على شكل شذرات تستعيد ذكريات ظلّت موشُومة في ذاكرة الكاتب بسبب جدّتها وطرافتها أولاً ووقْعها العاطفي في نفْس الكاتب ثانيا، قدّمت لنا محكيات صغرى عن إقامة الكاتب بجزر القمر، فرضها الفاصل الزمني بين فعل الرحلة وزمن كتابتها. أدى حضور هذه البنية النفسية الناظمة لنص عبد الله الخضير إلى عدم إعطاء أولوية لنقل المعلومات والمعارف حول جزر القمر والتي لا يعدمها هذا النص (عن سكّان جزر القمر وعاداتهم وثقافتهم وأخلاقهم وأحوالهم السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية)، التي عبّر الكاتب في كثير من المواقف عن إعجابه بها، وبشكل خاص افتتانه بهدوء القمريين وطيبتهم وتعلقهم بالإسلام وأخلاقهم الحميدة؛ أبرزها الشعور بالأمن والأمان بينهم وتقبلهم الآخر وسرعة التعايش معه. لكن يبدو من وجهة نظرنا أن هذا النص الرحلي، قبل كل شيء، يهدف إلى التقاط الحالات النفسية للكاتب في محطات من سنوات مقامه في جزر القمر. وبذلك يعطي الكاتب الأولوية للوظيفة العاطفية على الوظيفة المعرفية التي لا تغيب في بناء نصه الرحلي هذا.
مشاركة :