الواقعية السحرية لم تولد في أميركا الجنوبية | أبو بكر العيادي

  • 1/8/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

عند الحديث عن الواقعية السحرية، تتجه الأنظار مباشرة إلى أميركا اللاتينية، على أساس أنها منبت ذلك الاتجاه وموئله، والحال أن المصطلح أوروبي المنشأ، وأن آدابا كثيرة، قديمة أو معاصرة، اتسمت هي أيضا بذلك النوع من المقاربة الفنية والمضمونية. ومرد ذلك إلى الديباجة التي وضعها الكوبي من أصول روسية فرنسية أليخو كاربنتيي في روايته “مملكة هذا العالم” التي صدرت عام 1949، وكان أعلن فيها عن مولد ما أسماه حينها الواقعية العجيبة. من الأوروبيين إلى اللاتينيين الواقعية السحرية تقترح رؤية متجددة وموسعة للواقع عن طريق جوانب الغرابة واللاعقلانية والألغاز التي ينطوي عليها العقل الواقعية العجيبة في رأي كاربنتيي نظرية تهدف إلى تحديد هوية ثقافية مخصوصة للفضاء الأميركي اللاتيني، في سياق ما عرف لاحقا بـ”ما بعد الكولونيالية”، لأن الغاية كانت مواجهة الهيمنة الثقافية للقوى الأوروبية والأميركية الشمالية، التي تجنح إلى فرض معيار ثقافي كوني، تخضع له بقية الثقافات في أنحاء العالم، وتسير على نهجه. وكرابنتيي في الواقع استوحى فكرته وحتى مصطلحه من ناقد الفن الألماني فرانز روه، الذي كان أول من استعمل عبارة “الواقعية السحرية” في عشرينات القرن الماضي، في كتابه “ما بعد التعبيرية، الواقعية السحرية: مشاكل الرسم الأوروبي الحديث”، استعرض فيه التيارات الفنية المهيمنة في ذلك الوقت كالانطباعية والتعبيرية، وميز من بينها أعمالا تتسم بالواقعية السحرية، التي هي في نظره تتمرد على الواقعية الخالصة وتقترح صورا ذهنية، قريبة من الهذيان والكوابيس، تدرج ضمن واقع مضطرب خلفت فيه صدمات الحرب الكبرى آثارا نفسية وجسدية مريعة. وفي رأيه أن الواقعيين السحريين خلقوا معبرا بين المعيش اليومي والحياة العادية، وبين الرمزية والسريالية. وكاربنتيي، الذي عاش ردحا من الزمن في باريس، لا ينكر ذلك، ولكنه يصر على أن ما وصف بالواقعية السحرية في أوروبا يخص الفنون التشكيلية أولا، ويتناولها من موقع نخبوي ينظر لما بعد التيارات السائدة ثانيا، ثم إنه لا يصدر عن تهجين ثقافي شعبي ثالثا وأخيرا؛ ولو أنه عيب عليه هو أيضا تأثره بالتيارات الفنية الأوروبية، وقطعه مع الثقافة المحلية لجنوب القارة الأميركية ووسطها. لقد ظهرت منذ قرون أعمال فنية تمزج بين الواقعي والعجيب كما هو الشأن في لوحات جيروم بوش وإلغريكو وروبانس وغويا، أو في أعمال أدبية على غرار بعض مؤلفات رابلي وفولتير ولورانس شتيرن، وحتى نابوكوف وغونتر غراس لاحقا، بل إن الألباني إسماعيل قدري يرى أنها ظاهرة إنسانية عالمية لا تخص القرن العشرين وحده، إذ لم يخل منها أدب من آداب الأمم، من حكايات ألف وليلة والكوميديا الإلهية ودون كيخوته والعاصفة وفاوست، ويردها حتى إلى التراجيديات اليونانية القديمة؛ غير أن الإنتاج السردي في جنوب القارة الأميركية، وخاصة خلال الستينات والسبعينات، هو الذي فرض هذا المصطلح عالميا بفضل كتاب كبار أمثال خوان رولفو وميغيل أستورياس وخوليو كورتاثر وغبريال غارسيا ماركيز. ذلك أن الواقعية السحرية هدفها الإمساك بواقع معلوم من خلال رسم يومي للشعوب اللاتينية الأميركية أو الكاريبية كي تكشف عن جوهرها العجيب الذي يقدم أحيانا في ما يشبه الأسطورة. فهي تقترح رؤية للواقع متجددة وموسعة عن طريق جوانب الغرابة واللاعقلانية والألغاز التي ينطوي عليها العقل البشري. وفكرتها تقوم على اعتبار الخيال جزءا من الواقع، وضرورة إلغاء الحدود بينهما، ما يعني أن المبدأ التقليدي للواقع تجاوزه تدخل كل ما هو غير عادي وغير طبيعي، حيث تتجلى أعمال السحر والتطير والتواصل مع الأرواح والحياة بعد الموت والأحداث التي تبدو غير مفهومة لدى القارئ، ولا تستجيب إلا لمنطقها الخاص، ولكن دون انتهاك للواقع بشكل فاضح كما في السريالية، أو خلق عوالم فنتازية كما في روايات العجيب والغريب والخيال العلمي؛ كل ذلك مع احتفاظ العمل السردي بمقوماته من حبكة وعقدة وشخوص. بيد أن السؤال الذي ما فتئ يثير الجدل حول الواقعية السحرية والواقع والواقعية العجيبة يتعلق بطبيعة العناصر السحرية والميثولوجية ودورها في النصوص المعنية. بعضهم يرى أنها سمات خاصة بالثقافة التي تنتمي إليها تلك الأعمال، كالإيمان بالسحر والمعجزات لدى شعوب تلك المنطقة، في مقابل العقلانية التي تنسب إلى الشعوب الأوروبية والأميركية، بدعوى أن تلك العناصر هي شهادة صادقة عن أنماط عيش القبائل أو الشعوب المذكورة في العمل الأدبي. بينما يرى آخرون أنها ليست سوى ملامح جمالية مخصوصة، ذاتية ومرهونة بنفسية الكاتب الذي يسائل على طريقة الآداب الحداثية وآداب ما بعد الحداثة مفاهيم “التخييل” و”المعنى” و”الحقيقة”. وبالرغم من الخصوصيات الثقافية التي تسم أعمال كتاب أميركا اللاتينية، فإنها لم تنشأ من فراغ، بل خضعت هي أيضا إلى تأثيرات خارجية ذكرنا بعضها أعلاه، ويمكن أن نضيف إليها تجارب غوغول ودوستويفكسي وكافكا وفوكنر. ثم كان التأثير في الاتجاه المعاكس حيث كسرت الحواجز وظهرت تجارب في أنحاء كثيرة من العالم استفادت من التجربة اللاتينية في مقاربة واقعها ومزجه بمعتقداتها وفولكلورها كما هي الحال في جانب من الروايات الأفريقية والعربية والآسيوية، وليس اعتباطا أن ربطت لجنة نوبل الصيني مو يان، المتوج عام 2012، بالواقعية الهذيانية، كما ربط النقاد تجربة جون ماكسويل كوتزي، الفائز عام 2013، بالواقعية الأليغورية، وكلتا التجربتين متأثرتان بشكل أو بآخر بالواقعية السحرية. أما ما قيل عن علاقة كتاب أوروبيين بالواقعية السحرية أمثال دينو بوتزاتي وإيطالو كالفينو وإرنست يونغر وجوليان غراك، فإنما هي تجارب حاولت منذ العشرينات والثلاثينات فتح مجال لتجربة فكرية عن إدراك واقع متعدد، ما قبل الأشياء وما بعدها، فضلا عن كونها لم تفرز أنماطا سردية تقحم تجليات خارقة في ظرف واقعي. وجملة القول إن الواقعية السحرية، خلافا لما بعد الحداثة التي لا تقترح شيئا عدا التشظي والفوضى وزعزعة الذات، تقدم زعزعة بناءة لا تهدد الأساس الأونطولوجي للذات بوصفها كيانا معياريا حاضرا في مواجهة الموضوع، فهي لا تتحدد كمعارض لشيء آخر، بل كمرافق لذلك الآخر، دون أن تحلل خصوصية القطبين المترافقين.

مشاركة :