لم يأت إلينا الفضائيون ولم نغزوا الكون | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب

  • 7/27/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في عالم يشهد تحوّلات جذرية كبرى، واكتشافات علمية وتكنولوجية مذهلة، بات الخيال عاجزا عن تجاوز الواقع، فكل ما تخيله كتاب الروايات الاستباقية، الديستوبية في معظمها، تَحقق بكيفية أو بأخرى، ولو على حساب الشعوب، ما دفع كتاب الخيال العلمي إلى البحث عن سبل أخرى تستشرف المستقبل انطلاقا من الحاضر، فالغد في تصورهم يبنى الآن، وبصورة مشتركة يساهم فيها كل فرد حيثما كان. أدب الديستوبيا الذي راج في النصف الأول من القرن العشرين، هو عبارة عن أعمال إبداعية يرسم فيها مؤلفوها واقعا متخيلا منظَّما على نحو يستحيل على الفرد في ظله التملص من قبضته للعيش في حرية وسعادة، لأنه غالبا ما يسيطر عليه حاكم أو نظام مستبدّ يفرض قوانين جائرة يسيطر من خلالها على الرقاب، كما هي الحال في رواية جورج أورويل “1984”، وقد تكون يوتوبيا تتحول إلى كابوس وتنقلب إلى يوتوبيا مضادّة، كما في رواية يفغيني زمياتين “نحن الآخرون”، أو رواية كاريل تشابيك “حرب السلمندر”. ومثلها روايات الخيال العلمي التي تصور مستقبلا مظلما وتنذر بزوال الإنسان وفناء العالم، كرواية بيير بول “كوكب القردة” أو رواية هاري هاريسون “شمس خضراء”. والمعروف أن أدب الخيال العلمي، الذي عرّفه إسحاق أسيموف بكونه فرعا من الأدب يهتمّ بأجوبة الإنسان عن تطورات العلم والتكنولوجيا، ينقسم إلى صنفين: الخيال العلمي الروائي والخيال العلمي الآني. الأول يضم ما اصطلح على تسميته بـ “سبيس أوبرا” أو أوبرا الفضاء فأحداثه تدور في زمن سرمدي وفضاء كوكبيّ بعيد عن الأرض، وهو يتحدث عن الغد في مكان آخر، مثل “كثيب” للأميركي فرانك هاربرت؛ مثلما يضم روايات ما بعد الكارثة كرواية “الطريق” للأميركي كورناك ماك كارثي. أما الصّنف الثاني فهو الذي يتحدث عن العالم الحالي بعنفه وتكنولوجياته الصاعدة، وهو الذي عرف بالـ”سايبر بونك”. التنبؤ بالكوارث لئن أدّت تلك الأعمال دورها في تنبيه الناس إلى مخاطر الأيديولوجيات وتحذيرهم من انحرافات التقدم العلمي، فإن ما يعيشه العالم اليوم من حروب وأوبئة ومجاعات وتلوّث وتصحّر يفوق تلك المخاوف. حتى فناء العالم، الذي أسس للسرديات الدينية، تحول في الأعوام الأخيرة من غطاء أدبي وميتافيزي إلى تصوّر عقلاني، ما جفّف ينابيع مثل تلك السرديات، وجعل الحديث عن نهاية العالم عاديّا بشكل جمّد الجسد الاجتماعي، فالإحباط الذي أصاب الناس بات يدفعهم إلى التفكير في واقعهم أكثر مما يفكرون في العالم ونهايته. والأعمال التي ظهرت خلال القرن العشرين كان هاجسها أن ما عاشته البشرية من ويلات لن يحدث بعد اليوم، ولكنه عاد ليحدث مرارا وتكرارا في شتى أنحاء العالم، ولو كان الخوف يغير الأحوال لتجلى ذلك على أرض الواقع، ما يعني أن الديستوبيات حذرت مما سوف يحدث، ولكنها لم تملك قدرة على دفع المجتمعات إلى تجنّبه أو صدّه أو تغيير وجهته. حتى المحاولات التي ظهرت في الثمانينات، توقفت عند الـ”سايبر بونك”، ذلك الجنس المتفرع من الخيال العلمي، والذي يصور العالم وقد دمّرته الصناعة والشركات المتعددة الجنسيات والتكنولوجيا وتفشّت في مجتمعاته الجرائم والمخدرات والقرصنة الرقمية، وظهر بين سكانه بشر محوَّرون جينيّا أو صناعيّا وروبوهات، وكل الأساطير المؤسسة التي استوحى منها خبراء المؤسسات التكنولوجية ومطورو البرامج ومهندسو وادي السيليكون مشاريعَهم. ولكن بما أن برامج غزو الفضاء تعطّلت، وسكان الكواكب الأخرى لم يظهروا حتى الآن، اتجه منتجو ذلك الجنس إلى سرديات ما بعد الكارثة التي تضع البشر أمام خيارين: إمّا “ما بعد الأنسنة” التي تقترح على الإنسانية أن تغادر وضعها الحالي لكي تتحسن باطراد، وإمّا الدّمار البيئي. فهل نرضى بالاستسلام إلى هذا المصير المظلم؟ وأي نوع من القصص يمكن أن يدفع الإنسان إلى الحلم بغد أفضل؟ ومن الذي يمكن أن ينتج جمالية وأيديولوجيا يمكن أن يسير على هديهما مغامرو الغد؟ تلك هي الأسئلة التي راودت جيلا جديدا ظهر في بريطانيا وأميركا وفرنسا، يعترف بأن الخيال العلمي صار يواجه صعوبة في مسايرة نسق التقدم العلمي والتكنولوجي، وأن كل روايات التخويف الاستباقية، من جنس “القيامة الآن”، لم تُجْدِ نفعا، بل زادت الإنسان المأزوم تأزّما وخوفا من حاضره أكثر من غده. هو جيل من الكتّاب يدعو إلى مستقبل يحدوه الأمل والتفاؤل، انطلاقا من الواقع الذي نعيشه اليوم، ومن الطاقات الكامنة في كل فرد، ويتألف من مجموعات هي “سولار بونك” في بريطانيا، و”هوب بونك” في الولايات المتحدة، و”زنجبار” في فرنسا، لا تربطها غير غاية واحدة، وهي أن ليس للبشرية أمام الكوارث المناخية وتصاعد التطرف في شتى أرجاء المعمورة، إلا الإيمان بالمستقبل، والاعتقاد بأن الإنسان يمكن أن يستفيق ويكفّر عن سيّئاته بفضل خصاله الإنسانية. الحركة الأولى، “سولار بونك”، هدفها كما قال المنظّر البريطاني جاي سبرينغيت “إلغاء الكارثة، وحذف برمجتها”، فهي مضادة للديستوبيا، وأعضاؤها يعتقدون أن البشرية ينبغي أن تجد وسيلة لرفع رأسها وتحطيم الحواجز الثقافية، بعيدا عن أنانية البيض المركزية التقليدية، وتطوير سبل الإقامة في أرض مَصونة من التلوث والتدمير والأوبئة بدل التفكير في غزو مارس واستعماره. والحركة كما يدلّ عليها اسمها تضع التكنولوجيات الشمسية في مقدمة اهتماماتها، بل وتنظر إلى الشمس بما يشبه التقديس، بوصفها هي التي يمكن أن تنقذ الأرض والبشرية جمعاء. ولئن انتقد بعضهم نسبتها إلى الـ”بونك”، تلك الحركة الشبابية المتمردة على قوانين المجتمع وأعرافه، فإن الباحثة في العلوم الاجتماعية جنيفر هاملتون ترى أن وجه التمرد فيها يكمن في تفاؤلها الظاهر الذي لا يحثّ على اتباع قوانين النظام القائم، بل على مداورتها وتفاديها. والحركة، كما يقول منظّرها، ليست خلفا لأي جنس من أجناس الخيال العلمي الأخرى، بل إنها تطرح نفسها كامتداد لمثال سياسي موجود في الحقل الواسع للسرديات الاستباقية، مع اقتراح جماليات جديدة. وقد وجدت “سولار بونك” صدى واسعا حتى في بعض البلدان الناطقة بالبرتغالية كالبرازيل، حيث صدر كتاب بعنوان “حكايات إيكولوجية وفنتازية في عالم مستدام”، وهي قصص استباقية عن مجتمع تستعمل فيه الطاقات البيولوجية المطورة بالتكنولوجيات بالغة الدقة، ويسيطر فيه الإنسان على قوة البرق ويصنع مركبات فضائية ضخمة بفضل إشعاع الشمس. ولا عجب فمن بين كتابها البرتغاليين والبرازيليين يوجد عدد من المهندسين والصحافيين المتخصصين في العلوم والتكنولوجيا الحديثة. الثانية هي “هوب بونك”، والاسم مستوحى من مصطلح للكاتبة الأميركية ألكسندرا رولاند، وهي حركة تعتقد أن الأمل hope صار فعلَ مقاومةٍ لمكافحة الرؤية الكلبية للمستقبل (التي تحتقر العرف والتقاليد والأخلاق الشائعة) واختيارا واعيا لتأكيد الفرد على إنسانيته، فالإنسان مدعوّ إلى الإيمان إيمانا راسخا بإمكانية خلق عالم أفضل، إذا ما تضافرت الجهود واعتنى الناس بعضهم ببعض بدل الصراع الدائم ضد بعضهم بعضا. فرضت الـ”هوب بونك” حضورها في الأعوام الأخيرة كتيار ثقافي وسردي يهدف إلى التخلي عن أفكار عفّى عليها الزمن، أي تلك التي جعلت من مجتمعاتنا ومن مستقبلنا عالما ذاتانيا، مظلما، قاسيا، متشائما وحتى كثير الفساد والانحراف، ويدعو إلى كتابة مستقبل وتصوير عالم يطيب فيه العيش، والتأكيد على الرعاية والتعاطف والتوادد واحترام كل إنسان. والكتابة من منظور هذه الحركة تقوم على جمالية ومناخ يتوافر فيهما الصراع الثابت ضدّ أي استسلام أو تشاؤم، واختيار شخصيات عادية بدل النبلاء والأبطال الذي لا يُقهرون، والوعي بالذات ومشاعرها لتذكيرها بأصلها ككائن بشري، والتحلي باللباقة والكياسة واحترام الآخر وتقديره. وقد ووجه التركيز على هذه العناصر بانتقاد رأى فيها نوعا من السذاجة والطوباوية، غير أن أعضاء الحركة أكدوا أن اقتراح أدب خيال علمي إيجابي ليس مجرد هروب من الواقع، بل هو دعوة إلى تخيّل تغيير يمكن أن يساهم الجميع عبر العالم في تحقيقه. اختارت الحركة صفة “بونك” هي أيضا لأنها تعتقد أنها حركة احتجاجية، تنكر أن يكون المستقبل مأساويا أو مثيرا للقلق، كما يتبدى في وسائل الإعلام والأعمال الفنية من كتب ومسلسلات وأفلام ورسوم. وفكرتها تقوم على اقتراح مستقبل واقعي، يمجَّد فيه كل ما هو خيّر في الإنسان، ويلحّ على اللباقة لأنها غدت في يومنا هذا فعلا سياسيا، يستوجب شجاعة ومثابرة من أجل تغيير الأشياء من الداخل، من داخل الفرد أولا. تقول ألكسندرا رولاند “نعرف أن الظروف سيئة جدا، ولكن أملنا تدعمه أفعالنا. إن شخصية الـ’هوب بونك’ أقرب إلى الـ’هوبيت’، ومن صراع فرودو ضدّ هيمنة الخاتم هيمنة شريرة عند تولكين أكثر من كونها بطلا نبيلا أو رجلا ذا نفوذ سحري أو قوة جسدية خارقة، ثم إن المهم ليس في نصر نَعِدُ بتحقيقه في نهاية المطاف، بل في المطاف نفسه، في العمل اليوميّ الدؤوب. وخير مثال يحضرني هو أن يَفلح الفرد بستانه كي يطعم جاره”. وأما المجموعة الثالثة فهي فرنسية، وقد اختارت اسم زنجبار Zanzibar وفاء للبريطاني جون برونر ورواية بالعنوان نفسه كان نشرها عام 1968، وكذلك لكونه اسما منفتحا على الخارج، على الآخر. وقد عبرت عن أهدافها في مانيفستو جاء فيه “رغم أدوات الاستكشاف ومكاتب الدراسات المستقبلية في المؤسسات الكبرى وطغيان خطاب يريد أن يكون غدُنا شبيهًا بيومنا وبأمسنا أو لا يكون إطلاقا، فإننا على يقين بأن مستقبلنا، مشتركا أو فرديّا، نملكه، مثلما نملك القدرة على تخيّله وبنائه حسب مشيئتنا”. هذه المجموعة، التي لا تعتبر نفسها ناديَ كتّابٍ ولا حركة أدبية، بل مجرّد منطقة لحلم مشترك، رغم أنها تضمّ خيرة كتاب الخيال العلمي في فرنسا أمثال كاترين دوفور، وألان دامازيو، وستيفان بوفرجي، وليو هنري، وسيلفي ليني، وماتياس إشني، اختارت أن “تطلق سراح المستقبل” (والعبارة لها) وتحرّر المخاييل، وتروّجها عبر العالم، فقد لاحظت أن أدب الخيال العلمي لا يزال في مطلع الألفية يحوم حول الركائز الثلاث لما بعد الأنسنة، أي الخلود، والبيوتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، وأن كتّابه في معظمهم يتحركون تحت ظل غافام (غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون، ميكروسوفت) ويحللون آثارها المحتملة اجتماعيا واقتصاديا وإنسانيا، خاصة في مجال الشغل، ويستخلصون تعميمات مبالغا فيها، ما جعلهم عاجزين عن الخروج من هذا النموذج لاقتراح براديغم جديد. تيار ثقافي وسردي يهدف إلى التخلي عن أفكار عفّى عليها الزمن تيار ثقافي وسردي يهدف إلى التخلي عن أفكار عفّى عليها الزمن وتقترح “زنجبار” مشروعا يلتحم بالواقع، بوصفه موطن الآمال والتطلعات والمخاوف، ويقدّم مادة غير مسكِّنة ولا مرضيّة، مادة تعبر عن إرادة لا عن شكاوى، وتُصور مستقبلا بديلا يتوسل بوسائل نشر غير تقليدية، كالمنشورات التي توزع على الناس مجّانا، والملصقات، والمداخلات الإذاعية، وكلها مؤلفات بغير توقيع غير اسم المجموعة، يحقّ لأي كان أن يستفيد منها ويستثمرها دون مطالبته بحقوق تأليف. وجملة القول إن ما يعيشه العالم اليوم يفوق الخيال، فوحشية داعش الإجرامية، وانتخاب رجل جاهل على رأس أعظم دولة في العالم، وقدرة فايروس على حبس البشرية قاطبة داخل بيوتها، ما كان ليتخيله أكثر الكتاب استباقية، وهذا مصداق ما قاله ليو هنري من أن الخيال العلمي بصدد الدخول مباشرة في حائط الواقع. ومن ثَمّ كانت هذه المساعي للخروج بأدب الخيال العلمي من استقراره واجترار ثيماته، لمعانقة ثيمات أخرى تؤمن بقدرة الإنسان على خلق عالم جديد، يطيب فيه العيش.

مشاركة :