مِنْ جِنَايةِ الرِّوايةِ إلى خِيَانةِ الحَدَاثَة..! 2-2

  • 6/17/2014
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

وإذ اجتهد المستشرقون في الْتِماس مرجعيات معرفية للمستجد الحضاري الإسلامي، حتى لم يدعوا شاردة، ولا واردة إلا افترضوا لها مصدراً: يونانياً، أو رومانياً، فإن الحداثويين لم يكلفوا أنفسهم التماس تأثير الحضارة الإسلامية على الفكر الغربي وحضارته، بل لم يستنجدوا بمقولات المنصفين من المستشرقين الذين أقروا بتأثير الحضارة العربية الإسلامية على الحضارة الغربية المستفيضة على كل لسان، إلا لسان الحداثويين. وأكاد أقطع بأنهم حين تصدمهم الحقيقة، يَصِمون الحضارة العربية بأنها مجرد ناقل رديء، بمعنى أنها سهَّلت عبور الحضارة اليونانية، والرومانية، وأن المسلمين لم يستفيدوا، بل ناصبوا الفلسفة، والفلاسفة العرب العداوة والبغضاء. وأكدوا أن المتعاطين معها من فلاسفة العرب شوهوها، وفهموها على غير مراد مصدرها. ولست بحاجة إلى التسمية، أو الإحالة، فأنا لم أرد لمقالي أن يكون بحثاً علمياً ملتزماً بالمنهج، والآلة، والمرجعية، والإحالة. ثم إنني كُفِيت شطراً من هذا الهم، بما في الأيدي من دراسات معمقة وشاملة، تفَنِّد هذه الجناية، وتفصل القول فيها. وخير شاهد على خيانة الحداثوية الجرأة على المقدس، وأنسنة الإلهي، والاعتراف المشين، حَتَّى لقد أُسْطر القصص القرآني عبر الرسائل العلمية المحكمة والمدعومة. وكُذِّب الخَبر القرآني في قاعات الدرس الجامعي. ولما ثارت ثائرة حراس التراث، انخنس الجناة، ولكنهم عادوا لما نهوا عنه، بمناهج، وآليات مخادعة، تنساب كالخدر، لا تصدع بالجناية، ولا تقطع بالرأي، وإنما تُمرها بألبسة موهمة. ولما اتسع الخرق على الراقع، وألَفِتَ المشاهد مثل هذه القراءات التآمرية، أعيد عفن التراث، كالغلمانيات، والخمريات، والغزل الماجن، والتفحش في السخرية والهجاء، وأدب النقائض، والشعوبية، ليكون مبرراً لعبث مُنَظَّم. والقراءات التآمرية لا تنطلق من قعر الخطيئة، ولكنها تبدو متفاوتة في دركاتها، ليقبل الغيورون أهون الضررين. لقد فرغ [جرجي زيدان] وهو قبطي حاقد، وعالم متضلع في وقت مُبَكِّر من تشويه التاريخ الإسلامي، بسلسلة رواياته الإسلامية، كما يسميها، ليخادع بها الطيبين بحجة تقريب التاريخ الإسلامي للناشئة من خلال القصص. وكنا نراها معروضة في الأسواق للبيع، وفي المكتبات للقراءة. وما علم المتهافتون على السراب أنها تكريس للنظرية [الفرويدية] بكل بشاعتها. وواكب هذه النظرية نظريتان مماثلتان هما: نظرية «دوركايم» الاجتماعية، ونظرية «دارون» التطورية، وكلها يهودية المنشأ. وتلك البدايات الخادعة روَّضت الجماح، وهيأت الأجواء لمزيد من النظريات المادية، الصادمة، المغثية، التي قطعت صلتها بالسماء، ومكنت عمالقة الحداثوية من الإيغال في الرذيلة، واستمراء الخطيئة. والتصدي للمستجد، متفاوت في مستوياته، وأساليب مواجهاته، ونصيبه من الخطأ والصواب. وعلى الرغم من نكارة المتداول، فإنني لست مع كل المتَصَدِّين لمستجدات الغرب، المِصرِّين على قطع الأواصر مع المنجز الإنساني، لمجرد جِدَّته، أو مصدريته. فالإرث الإنساني مشترك حضاري، حسنه حسن، وسيئه سيئ. والدعوة إلى المقاطعة الشاملة محسوبة على سوء الإدارة للعلاقة مع الآخر، ومن ثم لم يكن بودي أن أكون محسوباً على المقاطعين، ولا على المسكونين بعقدة الغزو والتآمر، ممن يحسبون كل صحة عليهم، ولقد قلت: إنني آنف من الالتفاف بأي عباءة. لا مراء في أن المستشرقين، والمتذيلين لهم، توسلوا بالانتحال الباطل، والتحريف الضال، والتأويل الجاهل، لتفريغ التراث من المحتوى العروبي، والمقاصد الإسلامية. ولا مراء في أن حراس الإرث الإسلامي يعيشون أسوأ عصورهم، وأشدها وطأة، وتخذيلا. وكأني بمحنة [ابن حنبل] قد عادت جذعة. ولما كان لكل عصر لبوسه، كان يجب التحرف لأسلوب مواجهة، لا تكون فيها المقاطعة الشاملة هي الخيار الأمثل. فمن المصلحة -والحالة كذلك- استدعاء لغة الطوارئ:- إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ و إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً و الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ هذا فضلاً عن ترويض النفس على قبول الحق، وإن كان من العدو. والجنوح إلى السلام، وإن كان مع العدو. والدفع بالتي هي أحسن، وإن كان بالإمكان المبادلة بالمثل. فالجهاد، وإن كان ذروة سنام الإسلام، ليس هو الخيار الأمثل. ذلك أن الدعوة، والقدوة، وإسماع كلمة الله، والدفع بالتي هي أحسن خطوات أولى، وخيار رئيس. ولما كانت الحرب باللسان والسنان، وكان المتاح اليوم حرب اللِّسان، وجب على الأمة أن تجيد لغة التفاوض، ولغة الحجاج والجدل، لغة الإثارة، والإمتاع، والاستمالة، والإقناع، لغة العقل، وإن كانت لغة عالية لا تتأتى إلا لمن هيأه الله، ليكون من المجددين الذين وعد بهم من لا ينطق عن الهوى. لقد تعطلت لغة الكلام، وقام السنان مقام اللسان، في زمن المتردية والنطيحة، وأصبح بأس الأمة بين فصائلها المنهكة شديداً، وتمكن العدو من تمرير [أجِنْدته] دون أن يتعرض لخسارة في الأنفس والأموال. وكاد يصدق فينا قول الباري: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ ? هذه الأجواء غير السوية أتاحت للخطاب المستغرب أن يهيمن، ولا سيما أن عقلاء الأمة اعتزلوا الفتنة، ولزموا الصمت، وتحقق في المشاهد حديث:- إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا ? وتردي أوضاع الأمة ناتج ثلاث ظواهر:- الجهل، والعنف، والاستغراب. وتلك شكلت حواضن الحداثة الفكرية المنحرفة. واستبانة الخيانة لا تتطلب مزيداً من الجهد، ولا حشداً من الإثبات، ذلك أنها بادية للعيان، والإشارة إليها من باب التذكير، والتحذير، وأخذ الحيطة، والتحرف للمواجهة الحضارية، والتحيز للحلول السلمية، فما عاد بمقدور الأمة فتح جبهات جديدة، فيما بين أطيافها، أو فيما بينها وبين الآخر. ما تفقده الأمة في لجة الفتن: غياب القدوة الحسنة، وتخلف مرحليات الدعوة، وتَصَدُّر الرويبضات، وفقد التخطيط وخرائط الطريق، واختلاف نوازع الأمة، وأولوياتها، وخيار الصدام على الحوار، والتنابز على التصالح، واستفحال اللعب السياسية التي تتعمد الإفساد والتخويف، وتضخيم الأوهام، وصناعة الأصنام. وفوق هذا فالحداثويون الذين هيمنوا على المشاهد، وأصبحوا كالأغربة الأدلاء، التي تمر بالمهتدي بها على جيف الكلاب، يمتلكون مسوغات الصدارة بجلدهم الفاجر، وتضلعهم من التراث والمعاصرة، وتبادلهم الأدوار، وإتقانهم للغة التفاوض. فمن ينكر جاذبية [طه حسين] وتلطفه، وجمال عرضه، وسيطرته على التراث العربي والثقافة الفرنسية. وفي المقابل من ذا الذي يحتمل صلف [محمود محمد شاكر] وتعاليه، وتحامله العنيف على [المستشرقين] ورموز الحداثة كـ[لويس عوض]. ومع هذا فـ[طه حسين] حامل لواء الحداثة، و[محمود شاكر] حامل لواء حراس الفضيلة، بعلمه الغزير، وغيرته المحمودة، وثباته على مبادئه. حتى لقد ترك الجامعة حين اصطدم بأستاذه [طه حسين]. ذلك مثل من عشرات الأمثلة، نضربه لنؤكد على أهمية البراعة في إدارة الاختلاف. لقد شاع فكر [طه حسين] بهذه البراعة. وتعثر فكر [محمود شاكر] بتلك الغيرة المحتدمة المشاعر. رحم الله شاكراً، وعفا عن طه، لقد كانا مصدراً ثراً من مصادر ثقافتي ومعارفي. لقد هُيِّئ لي تقصي الحراك الحداثوي في مختلف مجالات الحداثة الفكرية والأدبية، ومراوحتها بين [التسييس] و[الأدلجة] وتبادل أساطينها للأدوار، بذكاء فارط، وخبث ذكي. فهل أحد ينكر القدرة الفائقة لـ[أدونيس] في كتابه الضجة [الثابت والمتحول]. والشمولية المعرفية لـ[حسن حنفي] في كتابه الموسوي [من العقيدة إلى الثورة]. والوقاحة الماركسية للشيعي الشيوعي [حسين مروة] في كتابه الجدلي [النزاعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية]. ودعك من [أركون] المؤنسن لكل مقدس، و[أبي زيد] الناقد الألسني لكل خطاب، و[الجابري] معتزلي العصر، والمؤرخ والناقد للعقل العربي، الذي التقط الخيط من [أحمد أمين] في تاريخه للحضارة الإسلامية من خلال منهج اعتزالي، فند به تكوين العقل، وبنيته بأسلوب معرفي، ومنهج تلفيقي، كشف عواره [الطرابيشي] المفكر النصراني المتعلمن. وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ ?. أما [جعيط] و[عبدالمجيد الشرقي] و[العروي] و [علي الوردي] فحدث عن تخبيصاتهم ولا حرج، على الرغم من تضلعهم المعرفي، ودقتهم المنهجية، وقدرتهم الجدلية. إنهم فتية بهرتهم جُرْءَة المستشرقين، ووقاحتهم، وحقدهم على الحضارة الإسلامية. فتلقوا الراية بأيد قوية في الباطل، حريصة على ترويض الجماح، وإشاعة المنكر من القول، وخلط الحق بالباطل. لقد أنسنوا التراث، ودنسوا المقدس، وشككوا باليقين، وأيقنوا بالشك، وتقحموا المسكوت عنه، وخاضوا في المتشابه، وأنكروا عالم الغيب، ونفوا الإعجاز، وعَدُّوا الإرث النبوي منجزاً بشرياً من إنسان خارق الذكاء، عنيف القومية. ومن ثم لابد في قراءة الإرث النبوي عندهم من إماتة المؤلف، لتتوفر لهم الحرية، وتضمحل الهيبة. المستشرقون قرروا، والحداثويون برروا، فالتقى الشر على أمر قد قدر. ما لا أريد تفويته إسهام حراس الفضيلة بتعزيز جانب الاستشراق والحداثة وذلك من خلال المجازفة في الأحْكام، والتعميم في الإدانة، والاهتياج الأعزل، وانعدام المصداقية في الحكم على الخصم، وعدم استيعاب رؤية المخالف على وجهها، والاكتفاء بالقراءة عن الخصم، وعدم قراءته من خلال وثائقه. وفي ذلك مخالفة للقاعدة الفقهية:- [الحكم على الشيء فرع عن تصوره] فكم من مهتاج أعزل، ملأ الساحة بالكلام الفارغ، ولكنَّه لم يقل شيئاً. دعونا نحاسب أنفسنا، ونسوي صفوفنا، ونتأكد من تمكننا من المنازلة، باقتدار، وندية، ونزاهة، ومصداقية، وتقويم دقيق للأوضاع. لقد أخذت البعض منا غفلة المؤمن، فكان ضحية لجلد الفاجر. وألهتنا حداثة الأدب عن حداثة الفكر. وحداثة الأدب لا تتعدى المنجز البشري، الذي يُستساغُ فيه الاختلاف. فيما تشتمل حداثة الفكر على المنجز الرباني بنصه القطعي الدلالة والثبوت. والأخطر من كل هذا وذاك اختراق أجواء الإسلام، وبث الضغائن والأحقاد، وإشاعة تزكية الذات، واحتكار الحقيقة، والفوقية، وجهل فقه الواقع، والأولويات، والتمكين، وتشتت المنتمين للتراث الإسلامي، المعتزين به، الذائدين عن حياضه في انتماءاتهم ومتطلباتهم، وترتيب أولوياتهم، وعدم تمكنهم من إدارة الأزمات بما يناسبها:- [الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المكان الثاني] لقد سيئت المشاهد كافة، ولم يعُدْ الخطأ وقفاً على طائفة دون أخرى، ومن يملك الورقات الرابحة فواجبه ألا يجاري المفلسين في أخلاقهم الدنيئة:- (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).

مشاركة :