ليكون لدينا قادة وعلماء وباحثون ورؤساء شركات ناجحة، علينا أن نبحث عن المواهب في مدارسنا وإثارة الاهتمام والشغف لديهم، ليس في مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة فقط، ولكن في كل مدرسة، في كل قرية ومدينة في المملكة، نريد مدارس يحبها الطلبة ويشتاقون إلى الذهاب إليها كل صباح لما تقدمه من متع وأنشطة مختلفة ترعى المواهب وتجعل الطالب مشاركاً ومبدعاً وليس مستمعاً ومتلقياً فقط.. بعد بحث وتقصٍّ ومشاهدات عملية طويلة استغرقت معظم سنين حياته، يؤكد أن التعليم اضطراراً، أو لمجرد الحصول على الشهادات مضيعة للوقت والجهد ووأد المواهب وتكريس الواقع بكل ما به من عادات ونقائص، كما يشير إلى أن نتائج التعليم ضئيلة ولا ترقى إلى ما يبذل في سبيله من جهد ومال ووقت يمتد سنوات طويلة، بل إن التعليم قد يصبح مضراً حين يحيي ويمجد التمايزات الثقافية، ويؤصل لأدلجة حدية إقصائية مقيتة، ذلك أن الإنسان يولد بقابليات فارغة مفتوحة مطواعة تلتقط وتحفظ كل ما يقدم لها، وإيصاله إلى الدماغ دون تمحيص وتحليل وشكّ ومقارنة، فالدماغ لا يملك آلية تفرق بين الصواب والخطأ، ولا بين الحقيقة والوهم، ولا بين الواقع والخيال. فالمعيار هو ما تبرمج به في السابق، وكما يشير الأستاذ إبراهيم البليهي دائماً إلى أن العقل يحتله الأسبق، فكل الأفراد في كل المجتمعات تتبرمج قابلياتها تلقائياً بالأسبق إليها، ويبقون طيلة حياتهم مغتبطين بما تبرمجوا به، مهما بلغ ذكاؤهم ومهما برعوا في تخصصاتهم وأنشطتهم اليومية. ويكرر الأستاذ إبراهيم في أكثر من صفحة من كتبه، ومنها كتابه "عبقرية الاهتمام التلقائي" وعنوانه الجانبي: "التعلم اضطراراً مضادُ لطبيعة الإنسان التلقائية". وهو أحد كتبه التي تؤسس لعلم الجهل. والبديل في رأي الكاتب هو التعليم المدفوع برغبة عارمة، وجهد مستغرق، وتدريب عميق، ويضرب في ذلك أمثلة كثيرة من مختلف دول العالم ومختلف التخصصات، فلا تعليم مبدع إلا بالميل التلقائي القوي، والرغبة الذاتية الملحّة، وحتى العبقرية لا تصنعها فصول يدخلها الطالب دون رغبة حقيقية في التعلم، ودون تفاعل يشعل جذوة الحماس فيه، ويفتح ذهنه لما يميل إليه وما يتوافق مع موهبته. وهو بذلك يتفق مع ما ذهب إليه دانيال كويل في كتابه "شفرة الموهبة" من أن أي إبداع بحاجة إلى شغف وتدريب عميق، ولا يعوض ذلك وجود التقنية أو الإمكانات المادية في المدرسة أو لدى الأهل. ويتحدث الأستاذ البليهي عن التعليم فيذكر أنه محكوم بالثقافات المتوارثة المثقلة بركام التاريخ وأغلال الثقافات وأحقاد الماضي وأوهام الامتياز، ولذا يبقى المتعلم مندمجاً بالثقافة السائدة مهما نال من الشهادات المهنية العليا. وهذا في رأيي هو ما يفسر معظم ما يقع في العالم من حماقات على مستوى الأفراد والدول، وإلا كيف نفسر اندفاع الشعب الألماني العظيم خلف قائد فاشي أقرب ما يكون إلى الجنون، أو قيام دولة متقدمة وقوية وذات مؤسسات مثل الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق لا لشيء سوى أوهام العظمة وتحقيق رغبات دولة صغيرة بحجم إسرائيل، وكيف نفسر سلوك الشعب الياباني قبل الحرب العالمية الثانية بروحه العدائية والعسكرية، وما بعد الحرب حين تغيرت الثقافة وانصرف الشعب إلى البناء والإبداع، مثله مثل الشعب الألماني حين جنح للسلم ووظف التعليم لمحاربة الأفكار القومية المتطرفة، أما دول العالم الثالث ومنها العالم العربي فمعاناته أكبر وأكثر ولا تزال مستمرة لا يؤثر فيها التعليم كثيراً، سوى في الجوانب المهنية. ويحذر البليهي في أكثر من موقع من الجهل المركب حين يغتبط الشخص بما يؤمن به من أفكار، ويستميت في الدفاع عنها، وهذا هو ما يفسر وجود جماعات دينية متطرفة مثل القاعدة وداعش وبوكو حرام وغيرها. الحكمة ضالة المؤمن والأستاذ البليهي يؤكد على حقيقة مهمة وهي أن يكون التعليم أكثر تأثيراً في ثقافة المتعلمين وسلوكهم من خلال جعل المدارس جاذبة وراعية للمواهب المختلفة وتقدير القدرات الفردية وعدم صهرها في قوالب متماثلة، بل يجب أن تكون المدارس راعية للمواهب، وإيقاد اهتمامهم، دون قسر أو اضطرار. أما العبقرية فليست خاصية فطرية، إنما هي نتيجة الاهتمام التلقائي القوي المستغرق، وهذا يعني أن كل إنسان قابل لأن يبدع في أي مجال يثير فيه شغفاً متجدداً لا يهدأ، واهتماماً تلقائياً قوياً لا يتوقف. ليكون لدينا قادة وعلماء وباحثون ورؤساء شركات ناجحة، علينا أن نبحث عن المواهب في مدارسنا وإثارة الاهتمام والشغف لديهم، ليس في مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة فقط، ولكن في كل مدرسة، في كل قرية ومدينة في المملكة، نريد مدارس يحبها الطلبة ويشتاقون إلى الذهاب إليها كل صباح لما تقدمه من متع وأنشطة مختلفة ترعى المواهب وتجعل الطالب مشاركاً ومبدعاً وليس مستمعاً ومتلقياً فقط.
مشاركة :