إن الفرق بين الاهتمام بالتعلُّم اندفاعًا والاهتمام اضطرارًا يُشْبه الفرق بين الاهتمام التلقائي الذي تُغدقه الأم على أطفالها بحنانها المتدفق وعطفها الغامر ورعايتها الفائقة واستمتاعها بالعناية بأولادها والتضحية بالراحة وربما بالروح من أجلهم وبين الاهتمام الاضطراري الذي تعانيه المربية التي تضطر لتحمُّل صراخ الأطفال وأوساخهم وعنادهم وتعنُّتهم وكثرة طلباتهم فهي لا تقوم بهذه الخدمة المنَفِّرة الشاقة بدافع تلقائي وإنما هي مضطرة أن تقوم بها اضطرارًا من أجل العائد المادي الذي تكون مضطرة إليه فتناله مقابل هذه الخدمة الثقيلة فهي تلتزم بها كنوع من المكابدة المعيشية التي لا مفرَّ منها بعكس الأم تمامًا التي تتلذذ وتستمع بخدمة مولودها. إن الإنسان يولد فارغ القابليات فتمتلئ وتتشكل تلقائيّاً بما هو سائدٌ في البيئة ويستمر هذا التشكُّل التلقائي مهيمناً على كل الناس في مختلف البيئات وعلى امتداد الأجيال باستثناء القلة الريادية التي تتحرر من الأسر التلقائي العام فالرواد تنفتح عقولهم على مختلف المؤثرات وينطلقون في مختلف الآفاق ويتفاعلون مع الواقع ببصيرة استثنائية نافذة بل إن التعلُّم اضطرارًا أثقل على النفس من العمل اضطرارًا لأن من يعمل مضطرًا ينال أجره عاجلاً فهو مدفوعٌ باحتياج آني ويحصل على العائد من غير تأخير فيشعر بالفائدة المادية وترتاح نفسه في نهاية كل شهر بينما الذي يتعلَّم اضطرارًا ينتظر فائدة مؤجلة تأجيلاً ممعنًا في تأخُّره بل في الغالب لا يكون الدارس قد أحسَّ أصلاً بالفائدة المؤجلة خصوصًا في المراحل الدراسية الأولى حيث يُحشر الأطفال في الغرف المغلقة وقد لا يكون الدارس مقتنعًا من مجيء الفائدة إلا بصورة باهتة وإحساس متلكئ وهي إن جاءت لا تأتي إلا بعد سنوات طويلة من الانتظار والمكابدة والشعور بالقسر لذلك يكون الأداء ثقيلاً ومملاً وغير محسوس آنيّاً بجدواه. إن الإنسان كائنٌ تلقائي تحركه قيمه الذاتية التلقائية العميقة التي تشبَّع بها تلقائيا من البيئة الحاضنة ونشأ عليها واندمج فيها كما تدفعه احتياجاته ورغباته وأهواؤه واهتماماته الذاتية إنه مجبول بأن يحب ويكره وينجذب وينفُر ويتلذذ ويتألم وبهذه الجبلة يكون إقباله وإدباره تلقائيًا أما التعلُّم اضطرارًا فهو مخالفٌ لطبيعته التلقائية فإذا أرغم نفسه على التعلُّم مضطرّاً استجابةً لأهواء واتجاهات وقناعات غيره فإن قابلياته لا تستجيب فيعاني من مكابدة ترويضها وتلقيمها ويستمر سنوات ممتدة يتجرَّع ما تأباه نفسه ويبقى ينتظر الفرج ليتجه إلى ما يهواه حيث سَيَهُبُّ في كل كيانه استجابةً للاهتمام التلقائي القوي المستغرق فيجد ذاته تستجيب له بكل قابلياتها المفتوحة وفاعلياتها المرنة وهذا هو ما عناه المبدع العالمي تولستوي بقوله: "إن الحرية شرطٌ لأي تعلُّم حقيقي" فقابليات الإنسان لا تنفتح بالإلزام بل تنفتح وتستجيب بالرغبة الذاتية والشغف العميق والاهتمام التلقائي القوي المستغرق". لذلك يرى المبدع الانجليزي ديفد هربرت لورانس بأن: "الروح التلقائية النابضة هي حقيقتنا الجوهرية" إنه نصٌّ مذهل إنني حين عثرت عليه كدت أطير فرحًا لأنه يتفق تمامًا مع نظريتي عن أن (الإنسان كائنٌ تلقائي) وأن التلقائية هي جوهر طبيعته وأنها مفتاح طاقاته وأن غياب إدراك هذه الطبيعة هو من أعمق أسباب فشل التعلُّم اضطرارًا وتفاقم المشكلات البشرية. إن ديفد هربرت لورانس لم يكتف بتأكيد أن التلقائية هي جوهر الطبيعة الإنسانية بل أتْبع ذلك بتأكيد أن التعلُّم القسري يدمِّر أثمن ما تملكه الإنسانية فيقول: "الحق أن طرقنا التعليمية الراهنة لهي من الهمجية من وجهة النظر السيكولوجية بحيث أصبح أفظع خطر يهدد بقاء الجنس البشري.. إننا لنقبض على أطفالنا بالقوة ونحشو أدمغتهم بطائفة من ترديدات الببغاوات.. وفي عُنف مصطنع وبيء تُفْرَض عليهم" ثم يقرر بحسم بأن: "المدارس تُسمِّمُنا" إن لورانس ينادي بمنتهى القوة بإطلاق طاقات الإنسان التلقائية وحماية الذات الفردية من التطويع والقسر والتذويب والتنميط وإخماد الخيال وردم القابليات فالمغامرة الفردية الحرَّة هي مفتاح كنوز الذات الإنسانية أما كبح وتقييد وتدجين هذه الذات فيؤدي إلى تدميرها وإماتة قابلياتها العظيمة. ولم يكن هذا رأيًا فرديّاً وإنما قبله كان الفلاسفة والمفكرون يدركون فداحة هذا الضرر على القابليات الإنسانية كما يدركون ضآلة النتائج للتعليم القسري وكما يؤكد أفلاطون بأن: "المعرفة حين تُكتَسب بالإكراه لا يمكن أن تبقى عالقة في الذهن" إن ضرر التعلُّم قسرًا واضطرارًا قد أدركه الكثيرون من المبدعين والمربين وعَبَّروا عن ذلك بصراحة ووضوح ولكن الطوفان البشري لا يتوقف أمام إضاءات الرواد وإنما يبقى مندفعًا في الاتجاه الذي اعتاد أن يندفع فيه من دون تساؤل مهما كانت ضآلة النتائج ومهما طال الزمن ومهما تعالت أصوات المدركين. لذلك نجد المتميزين الذين يضطرون لمواصلة التعليم الجمعي لا تكون إبداعاتهم في المجالات التي تخصصوا فيها اضطرارًا وإنما تأتي إبداعاتهم غالبًا في مجالات اهتماماتهم التلقائية وعلى سبيل المثال فإن الفيلسوف الأديب الشاعر الألماني فردريك شيلر قد ألزموه بدراسة الطب فأنجز الدراسة مُكْرهًا وحصل على الشهادة متأفِّفًا لكنه فرَّ من مهنة الطب التي دُفع إليها قسرًا وانغمس في المجالات التي كانت تستغرق اهتمامه التلقائي: الفكر والفن والشعر والأدب والتاريخ والصحافة والنقد والسياسة والاجتماع فصار من أبرز عظماء الفكر والأدب على المستوى العالمي فهو يأتي دائمًا في الصدارة بجوار جوته وليسنج وفولتير وهردر وفلوبير وكانط فقد جَمَعَ شيلر بين الفلسفة والشعر وفنونًا أخرى فبات معدودًا من الفلاسفة ومن الشعراء ومن المبدعين في مجال المسرح وغيره من مجالات الأدب والنقد لقد فرَّ حقيقةً لا مجازًا من مهنة الطب وهرَب إلى خارج حدود السلطة التي كانت تطارده لإرغامه على العمل طبيبًا في الجيش. كانت اهتماماته متنوعة وكانت اسهاماته مستجيبة لهذا التنوع وقد أوضَحَ جون جاسنر وإدوارد كون في كتابهما (مختارات من قاموس المسرح العالمي) هذا التنوع الشديد في اهتماماته وإبداعاته وكلها مغايرة لتخصصه الدراسي ومما جاء في هذا الكتاب: "شيلر.. مؤلِّف مسرحي وناقد وشاعر ومؤرخ ألماني.. يُعْتَبَر مثل جوته قطبًا من أقطاب الكلاسيكية.. دَرَسَ الطب ولكنه كان مهتمّاً بالأدب.. قبل أن يتخرج طبيبًا ألَّفَ مسرحيته (اللصوص) ورغم أن هذه المسرحية تعكس إنكار شيلر للطغاة والاستبداد الذي يحيط به إلا أن المسألة الأساسية التي تدور حولها معظم مسرحياته هي مسألة الحرية.. فالحرية تتخذ في مسرحياته الموضوع الرئيسي" وبعد النجاح الكبير الذي حققه إبداعه المسرحي عُيِّن مُؤَلِّفًا مسرحيًا ومديرًا للمسرح وليس مديرًا لمشفى... ثم يقول الكاتبان: "انصرف شيلر إلى الصحافة الأدبية ثم حاول إنشاء مجلة إلا أنه بعد فترة انصرف إلى دراسة التاريخ.. صار أستاذًا في الجامعة يُدَرِّس التاريخ.. عكف على التدريس ودراسة فلسفة كانط وكتابة كتاب يؤرخ لحرب الثلاثين كما كتب عدة أبحاث جمالية، فالمتميزون لا يحدُّهم تخصُّصٌ دراسي ولا تقيدهم مواضعاتٌ اجتماعية وتعليمية وإنما ينجزون ويبدعون حيثما تتجه اهتماماتهم التلقائية. ويقول الكاتبان: "لقد قادت المناقشاتُ النظرية التي أثارها شيلر إلى نظرية درامية معتمدة على دراسته لفلسفة كانط.. فمهمة الفنان مهمةٌ تعليمية لكنها ليست مهمة التعليم والإرشاد التقليديين بل هي الإشارة والكشف عن النمو الأخلاقي للفرد كسلاح ضد ضرورات الواقع" كان شيلر يدرك أن طاقات الإنسان لا تتحرك قسرًا وإنما تنفتح من داخل الذات فلا بد من التعامل بحذر مع قابليات الإنسان لئلا تصاب بالتلبك والانسداد. وينتهي الكاتبان إلى القول: "على الرغم من اختلاف نظرة وموقف شيلر من الحياة عن نظرة وموقف جوته إلا أنهما معًا وضعا حجر الزاوية للكلاسيكية الألمانية" ويؤكد الكاتبان بأن مسرحيات شيلر لا تزال تُعرض حتى يومنا هذا وتلقى ترحيبًا حارًّا. لقد لاحظ شيلر أن الذين ينهمكون في التعلُّم اضطرارًا لا يحصلون على شيء مهما أجهدوا أنفسهم فأطلق حكمته العميقة: "في الاجتهاد تكون النحلة معلِّما" لقد نَبَّه إلى: "أن الدودة أكثر انكبابًا" فالإنسان لا يحصل من ذاته إلا ما نبع من داخلها بعد أن تحتشد بما تلقته من مختلف المؤثرات المتنوعة فتكتظ وتفيض لذلك يَصْرخ شيلر: "الفن.. أوَّاه يا إنسان أنت تمتلكه وحدك" فلا أحد يستطيع أن يهبك قدرات لستَ متهيئًا لها من داخلك إن قابليات الإنسان لا تنفتح وطاقاته لا تتدفق إلا باهتمام تلقائي قوي مستغرق. إن الإنسان يولد فارغ القابليات فتمتلئ وتتشكل تلقائيّاً بما هو سائدٌ في البيئة ويستمر هذا التشكُّل التلقائي مهيمناً على كل الناس في مختلف البيئات وعلى امتداد الأجيال باستثناء القلة الريادية التي تتحرر من الأسر التلقائي العام فالرواد تنفتح عقولهم على مختلف المؤثرات وينطلقون في مختلف الآفاق ويتفاعلون مع الواقع ببصيرة استثنائية نافذة وكما يقول شيلر: "كلما كانت قابلية التلقي عند الإنسان متعددة الجوانب كان أكثر حركة ومرونة وكلما تعرَّض لمساحة أكبر من الظواهر استطاع أن يستوعب عالمًا أوسع وأن يطوِّر طبيعته بنفسه وكلما كانت الشخصية أكثر قوة وعمقا ربح العقل حرية أكبر وأصبح باستطاعته إدراك عالم أوسع وإنتاج صور أكثر" إن قابليات الإنسان يجب أن تستثار بما يزخر به العالم من الإفكار والأشياء والأوضاع والثقافات والتناقضات وبهذا التفاعل التلقائي الجياش تكتظ الذات بالرؤى والصور فتفيض فكرًا خارقًا وإبداعًا مدهشًا. إن شيلر واحدٌ من رواد الفكر الإنساني لذلك فإن اسمه يأتي دائمًا في الصدارة في مطولات تاريخ الفلسفة الجمالية ومطولات تاريخ الأدب كما يكون حاضرًا في المختصرات المضغوطة التي لا تضم سوى الأبرز من عظماء الفكر والأدب وعلى سبيل المثال فإن إميل فوجيه قد ألَّف كتابًا صغيرًا مضغوطًا شاملاً بعنوان (مدخل إلى الأدب) على امتداد العصور وفيه يقول: "شيلر عبقري واسع العبقرية.. مؤرخٌ وشاعرٌ غنائي وشاعرٌ تمثيلي وناقد بَرَزَ في هذه الأنواع كلها أصيلاً عميقا.. كتَبَ قصائد لقيتْ شهرةً عالمية.. وكتب أبحاثًا في الفلسفة النقدية.. وأنتج مسرحًا بأكمله" ثم يؤكد فوجيه بأن شيلر في مجال المسرح قد تفوَّق على جوته.. ثم يقول: "وله دراسات كان لها ولمؤلفها على الأدب الألماني كله تأثير مساوٍ لتأثير جوته.. بل يفوقه حقًّا.. وقد ارتبط شيلر بجوته بصداقة عميقة قوية ومات شابًّا قبل صديقه العظيم بسبعة وعشرين عاماً" إن اسم شيلر يأتي مقرونًا باسم جوته فهما أميز أدباء وشعراء الألمان إنهما من كبار المفكرين في العالم وكانا صديقين وبينهما من التآلف والتعاون ما جعل بعض الدارسين يؤكدون أن شيلر قد شارك في إبداع الجزء الأخير من رائعة جوته (فاوست). رغم أن الشعب الألماني أنجب عددًا من العظماء الذين امتد تأثيرهم إلى كل العالم من أمثال كانط وهيجل وليسنج وهردر وفخته ونيتشه وياسبرز وهابرماس وهيدجر وغيرهم إلا هذا الشعب الغني برواده ومبدعيه يَعتبر أن شيلر وجوته من أبرز مفاخره بل إنهما من المفاخر الإنسانية بنزعتهما العالمية وامتداد تأثيرهما إلى مختلف الثقافات وقد كتب الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس يقول: "لقد تمكَّنتُ من قراءة شيلر وجوته.. إن امتلاك شعب من الشعوب لحياة مثل ذينك الرجلين ومؤلفاتهما يعطيه ميزةً على الأمم.. لقد وُفِّقْتُ في تكوين صورة واضحة شخصية عن جوته الأمر الذي أحدث في نفسي تفريجًا كبيرًا وياله من شخصية جبارة" الحقيقة أنه يجب التدارك فالرواد الخارقون ينتمون لذواتهم وليس للمجتمعات فالرائد نتاج ذاته ويكون هَمُّه إصلاح أوضاع أمته والإسهام في إصلاح الأوضاع الإنسانية فهو في تفكيره وقيمه واهتماماته واتجاه نشاطه يكون ضد التيار السائد فالرواد على امتداد التاريخ هم أقلية مغايرة إنهم أفرادٌ استثنائيون فليسوا نتاج البيئات بل يكونون مغايرين لبيئاتهم وتكون اتجاهاتهم مضادة للاتجاهات السائدة. إن إبداعات الرواد العظام لا تبقى محصورة في بيئاتها وإنما هي تراثٌ إنسانيٌّ مشترك فمؤلفات شيلر تعدُّ من التراث الإنساني الذي تهتم به كل الأمم لذلك فإن وزارة الثقافة في مصر حين قامت في عهد الدكتور عبد القادر حاتم بالتعريف بأعظم إنجازات الرواد والمبدعين في مختلف اللغات تحت عنوان (تراث الإنسانية) خصَّته وكتابه (في التربية الجمالية للإنسان) بفصل كتَبَه الأديبُ المترجم المعروف أحمد حمدي محمود وهو فصلٌ كثيف المضمون ودقيق التوثيق لكن الكاتب حَصَر همه في التعريف في كتاب فلسفي واحد من إنتاج شيلر ولم يَفُتْ عليه أن يؤكد أن شيلر من أصحاب المواهب المتعددة فاقترح أن يُكتب عنه ضمن كتاب (تراث الإنسانية) عددٌ من الفصول تتناول الجوانب المتنوعة لإبداعاته يقول أحمد حمدي محمود: "حياة شيلر تتميز مثل مواهبه بخصبها وعمقها ووفرة متناقضاتها إذْ كان طبيبًا وضابطًا وشاعرًا ومؤرخًا وصحفيًّا وفيلسوفًا ومديرًا لمسرح كما أنه ذاق مرارة الفقر والحرمان وعانى الأمَرَّين من طغيان دوق إقطاعي من أقسى الطغاة من الذين عرفتهم ألمانيا قبل وحدتها وإلى جانب هذا فإنه قد حُظي بتقدير بلاده ومفكريها بوصفه مؤلفًا لمجموعة هامة من المسرحيات وقد كان له أثر عظيم على الفكر العالمي لا يقلُّ عن أثر سوفوكليس أو شكسبير" ومن المهم التذكير هنا بأن شكسبير رائدٌ علَّم نفسه ولم يخضع للتلقين التعليمي المربك للقابليات فامتلك قدرات ريادية خارقة مازالت تبهر العالم ومثله سوفوكليس فقدرات الفرد تتفتح وتنمو بمقدار تحرره من التنميط والتأطير والمأْسَسَة. ولا تتوقف إسهامات شيلر عند مجال دون غيره وإنما هو مهمومٌ بالإنسان أينما كان ويسعى لتأكيد حرياته ويوقظه للإمكانات العظيمة المختبئة في قابلياته ويفتح له الآفاق المتنوعة الواسعة لكي يتحرر من القوالب المعيقة ويبني ذاته بما يليق به كإنسان أخلاقي مسؤول حر وكما يقول أستاذ علم الاجتماع أوستن هارينجتون في كتابه (الفن والنظرية الاجتماعية): "يرى شيلر أن الفن يُسَوِّي بين العقل والحواس.. وأن الفن يُمَدِّن المجتمع موفِّقًا بين الطبيعة المتوحشة والإدارة القمعية.. الفن يَحُلُّ التناقض الموجود في التجربة الإنسانية بين الحرية والضرورة.. والفن يقف بين القانون والنظام من جهة والرغبة والإكراه من جهة أخرى ويعتقد شيلر بعدم وجود معنى أخلاقي يمكن اشتقاقه من الحياة الجسدية الغريزية للإنسان ومن ناحية أخرى يقول إن الأمر المطلق غير المشروط عند كانط القائم على رفض الدافع والميل الجسديين متطرِّف بشكل مُفْرط فلا يقدر على تحفيز السلوك الأخلاقي فلا بد من التسوية بين الأخلاق واللذة مع الحساسية" إن شيلر كان مهتمّاً بتمدين الإنسان وتهذيب طباعه بواسطة الفنون الراقية لكنه يؤمن بأن العمل التربوي يجب أن ينطلق من رؤية واقعية عن الإنسان وطبيعته واحتياجاته ورغباته غير أنه يضع الأخلاق فوق كل المهام الإنسانية إنه يؤكد أن "قوة البنية الأخلاقية إنما هي بعينها أقوى مصدر لكل ما هو عظيم في الإنسان.. وليس من مزية أخرى مهما بلغت عظمتها أن تُعَوِّض عن نقصانها أو غيابها" إن تطور العلوم والتقنيات واكتساب المهارات العملية وكل الإمكانات المادية تمنح مزيدًا من القدرة والقوة ولكن نمو القدرات من غير أن يصاحبه نموٌّ أخلاقي قد يكون ضرره أكثر من نفعه إن الإنسان كائن أخلاقي فمزاياه الحقيقية تتجلى في أخلاقه التلقائية العالية فالمعروف عند أهل الفكر أن الخلل في الحياة الإنسانية يتجسد في الخلل الأخلاقي إن الأخلاق الرفيعة هي أعظم الفضائل الإنسانية فلا شيء يعوض عنها إنها مفتاح الخير ومغلاق الشر ولكن امتلاك هذا المفتاح العظيم ما زال بعيد المنال في الحياة البشرية. ليس ما ورد في هذا المقال سوى جزء يسير مما يجب أن يقال عن شيلر لكن المساحة المتاحة هنا لا تتيح أكثر من ذلك.
مشاركة :