"أن نبرة الحياة في الاصل حزينة فلا حاجة الى لوم الكتاب وتسميتهم بالمتشائمين، لنا ان نتسائل هنا هل ان بلوغ مفاهيم الحرب والفراق والجوع مفردات انسانية ضاغطة على شخوصهم السردية والاحساس بعذاباتها تعتبر شؤما ام تبلورا لأصل موجود فعلا وربما تكون من خيالاتهم لكنها نابعة من أغوار نفس القارئ-الكاتب کقناعات راسخة". الكتابة ليست فقط وسيلة تدوين وتواصل مع الآخرين، وليست تقييدا للوقائع وليست معادلة للذاكرة إنها أكبر من ذلك، وليست مجرد حلم بل هي أوسع لأنها عالم تتحقق فيه الأماني والطموحات، وفيها يبني الكاتب وطنا له خاصا به، عالما افتراضيا يوازي العالم الواقعي. فالكتابة لا تعادل الواقع ولا تغيره لأنها متعالية عليه، ومختلفة عنه، وإنما تنشئ عالما موازيا متخيلا يجمل الماضي ولا يتجاوزه، ولا ينتصر على قيوده فهو مجرد "خطاب فوقي" ذي بنية متعالية لا تقول "الحقيقة" إنما تقول حقيقتها هي والمختلفة عن الحقيقة الماثلة في الواقع وحياة الناس. سأحاول في هذه السطور خوض غمار قراءة نقدية سريعة لنصوص الكاتب القصصية للكشف عن رؤياه وفنيته. في النصوص التي بين أيدينا تقدم بناء سرديا جماليا بأدوات إبداعية مكثفة تختزل رؤى جمالية وإنسانية بالرغم من الفقد والالم وهو ما سنوضح بعض جوانبه . تظل تجربة القاص هيثم الجاسم من التجارب المهمة في المشهد القصصي العراقي التي تزداد ثراء وغنى ومن أهم ما يميز هذه التجربة- القصصية- حفاظها الدائم على البناء الدرامي المصنوع من مفردات "شرطنا الانساني" الذي يمر بأسئلة الهوية، أسئلة الماضي والحاضر، أسئلة المفارقات اليومية والتي تمس المصير الانساني لهذا العصر ومظاهر العنف والاستلاب والتي تناسلت في مجتمعاتنا، والتي لم يجد الكاتب أمام أوضاعها المأساوية، سوى الرصد والتدوين.. في مجاميعه القصصية المميزة - ظل الكاتب مخلصا لأسلوبه في فضح وتعرية الأوجه الخفية لكل انواع السلطة "سياسية اجتماعية دينية"- الكتابة كشف الوجه الظاهر، والخفي للاستبداد بمختلف دلالاته . البناء السردي للنصوص متقن ولافت، وواضح من هذه النصوص أنّ الكاتب قادر على السّرد المحكم الذي لم يخلُ من عنصر التّشويق الجاذب للقارئ. وقد اختار الكاتب مواضيع تكشف عن انتهاكات في ظل نظام سلطوي وتداعيات ذلك على المجتمع، وتفضح ايضا التعصب الديني والفكر التكفيري المتزمّت ما بعد التغيير السياسي . وواضح أنّ الكاتب كتب عن حالات انسانية، لكنّها خلطت الواقع بالخيال ممّا وضعنا أمام نصوص مغايرة من - الواقع/الخيال، وإن كان الواقع خياليّا أحيانا أكثر من الخيال. هذه المجاميع ولأهميتها فقد أخذت نصيبا من البحوث والدراسات الجامعية، بسبب تنوع في موضوعاتها، وأساليب الكتابة فيها من مستويات السرد الفني والجمالي. ولاشك أن تجربة هيثم الجاسم هي نتاج تجربة حياتية- وفكرية- غنية تفاعلت فيها محطات من هم الوطن - الانسان . وجعلها "ظاهرة" وسردها بتقنية السرد الحكائي للظاهرة، بلغة مسنونة، وضربات عنيفة أشبه بضربات فرشاة والحفر المعرفي والاستبطان الهادئ للعلاقات الانسانية، والانطلاق في تقشير أقنعتها المزيفة التي تحكم مختلف مسلكياتها في مختلف المجالات. ورصد التحولات الاجتماعية والفكرية. سرد نصوصه بلغة تقوم على التحليل العميق، من جهة، وعلى المزاوجة بين المحكي والموصوف، سواء تعلق الأمر بسرد الذاتي/ الموضوعي معا .. أراد الكاتب لنصوصه أن تؤرخ للظلم في بلده، أن تسجل في الذاكرة ما لا يجب نسيانه أبداً، بدءاً من ظلم النظام وصولاً إلى كافة أنواع الظلم اليومي بأشكاله وألوانه ونكهاته المتعددة، هكذا يظل يحرضنا على أن نتذكر مأساة الحرب والحصار والقتل والنهب والجوع والتخلف والأوبئة القاتلة والعيش بالقهر وألم الذكرى ووجع الحنين حتى الموت، ويحرضنا أيضاً على الالتفات لمأساة الأبناء من تعطيل متعمد لقدراتهم ولحياتهم وسحق لكرامتهم. لذا نجد أن الواقعية العميقة قد طغت على كثير من النصوص القصصية، وفرض التأمل المعمق في المأساة على الكاتب نقده اللامتساهل ووصفه القاسي للواقع والصائب في قسوته، وعلى الرغم من ذلك فلم تسيطر الواقعية على تلك النصوص كلية، حيث يمتزج فيها بفنية متقنة كل من الحلم والأسطورة بالواقع والسخرية السياسية، كما نجد أن الكاتب يمارس حريته كيفما يشاء في السرد والشكل واللغة. وهنا يلمس الكاتب المخاوف الإنسانية لدى القارئ نحو الفقد والحرمان أي مصير مؤلم وهو إذ يصطحب القارئ وسط كل هذا الاستلاب لينجو فينجو معه القارئ، في تجربة الكاتب تكون أشبه بتجربة موازية للقارئ تمنحه شعوراً ـ موازياً- المجاميع القصصية التي أمامنا تمسّ الشغاف عاطفياً، وتستثير العقل فكرياً وتستعيد المعنى البكر لفن القص.. نصوص جديرة بأن تُروى وبأن يصغي إليها المتلقي بتعاطف ولهفة. وفيما تفيد هذه الحكايا من تعدد المنظور في فن القصّ بذكاء، فإنها نصوص متميزة سردها بإخلاص كلي لما يشعّ من غياهب الذات.. رسائل عديدة يحملها الكاتب للمجتمع، وتسلط الضوء على عذابات متوارية، كأنه يسعى إلى تفجير قنابل الألم . أن ما يهم الكاتب هو الإنسان وما يشعر به وما يفكر به وما يُقلقه. سرد مصائر مأسوية، تؤنس هموم الآخرين أراد كاتبها الذي عاش على مقربة منها بين التفاؤل والإحباط، وببحث دؤوب ليدونها وبأشكال كتابية موائمة من القص- الومضة والأقصوصة والقصة القصيرة جدا وبإتقان العارف بصنعته. مؤكداً أن القصة الحقيقة تبدأ بالإنسان وتنتهي به، وبخلاصة القول الكاتب أراد أن يكون مجدداً فيما يكتب ان كان في مجال الأدب أو في الصحافة والمزاوجة بينهما، كونه كاتبا مثقفا حين أعلن في مجاميعه القصصية عن وحدة الأديب والمثقف ذلك أن المثقف هو الذي يسائل أحوال قضيته - الدفاع عن الانسانية والنصرة الى الاهداف الوطنية، وان يكون الكاتب المجدد والذي يثير أسئلة جديدة تهم الوجود . أقول في النهاية ان قُدّر الشعوب أن تخضع لسيطرة طُغاة مُستبدين سحقوا إنسانيتها واستباحوا حُرماتها وساموا أهلها سوء العذاب وأفقروا العباد وتسببوا في تخلف البلاد فكريا وعلميا واقتصاديا. وإذا كان بعضُ الشعوب قد تخلص من هذا الطغيان، إلا أن هناك كثيرا منها مازال يُعانى الظُلم، ويرزحُ تحت نير الطغيان والاستبداد الذي استوطن البلاد، وصار شبحا مُخيفا يطل برأسه هنا وهناك كلما سنحت له الظروف تاركا وراءه الشعوب تموج في ضلالات الموت والجوع والجهل والتخلف والأمية، تُسيطر عليها روح الاستكانة والتقوقع والانكفاء على الذات، وتتجرع كأس الظُلم . اذن الكاتب يرصد كل هذا ويصيغه الى نص مخاتل ومشوق وإن النص يمارس غوايته الفنية عبر تجلياته وصوره التخييلية .فالغواية التي يمارسها النص لا تقف عند حدود المتعة الزائلة بقدر ما تؤسس لمعرفة حجاجية في أعماق النص. اذن الكاتب هيثم الجاسم قامة سردية متميزة، فلا تخلو نصوصه من العذوبة ورهافة الحس، النابعة من صميم حرفته في الكتابة، باقتدار وتحد تعبر عن معاناة الإنسان بشفافية الإنسان الرقيق، الصادق. فهو يصور الواقع بترانيم صوفية ولغة بلاغية لا تخلو من الرمز والإيقاع العذب الرقيق، وقد يستشف القارئ من الوهلة الأولى اتساع ثقافة الكاتب، من خلال توظيفه اليومي والمذكرات والسيرة في نصوصه توظيفا يخدم النصوص ويوسع آفاقها. هكذا تتبدّى لنا خطوط رؤيا الكاتب شيئا فشيئا لتفصح في الأخير بأنه متمكن من أدواته. وكان يسافر عبر نصوصه في عوالم غير تلك العوالم الظاهرة، فهو سفر في سبيل المعرفة لأن زاده وسواس ودافعه حماس. نكتفي بهذا القدر اليسير في قراءة هذا النصوص القصصية والتي ما زالت تكتنز في بواطنها دلالات وإيحاءات فنية ورؤيوية تفتح الباب أمام فضاءات التأويل الواسعة، وهو ما نأمل أن نجد له فرصة أخرى للكشف عن خبايا تلك النصوص.
مشاركة :