نظر الكثير من النقاد إلى تأثير النصوص السابقة، ولفتوا إلى جانبه الإيجابي باعتبار أن عملية التفاعل تكشف عن ثراء النوع وانفتاحه، وهو ما منح النص الصِّفة الإنتاجيّة، ولكن مع هذه التفاعلات يبقى النص الممركز يحتفظ بقيادة المعنى أو ريادته دون سواه، وإزاء هذه العلاقات المتشابكة/ المتداخلة بين النصوص الأصلية والنصوص الوليدة، أو بتعبير لوران جيني بين النصوص الشرعيّة والأخرى غير الشرعيّة، توالدت على حدود النوع نصوص جديدة تتشعب وتتفرَّع عن النص الممركز، تبدأ من التقليد إلى المحاكاة الساخرة، فالاقتباس، فالمونتاج، فالانتحال وغيرها من أشكال التفاعل. عملية التداخل بين النص السابق مع اللاحق تشير أولا إلى ثراء النص السابق الذي أثّر بقوة في النص اللاحق الذي يريد أن يكون مستقلا وليس تابعًا للنص السابق، بمحاولة المبدع تغيير النماذج كنوع من قتل شبح الأب بالمعنى الأوديبي، فالنص اللاحق كما حدد جينيت له دوافعه الشخصية التي تدفع بصاحبه إلى هذه العملية، وقد لا توجد في النص الشرعي/ النص الرئيس. ويأخذ التفاعل النصي عند جيرار جينيت شكلاً أكثر تفصيلاً وتحديدًا في الوقت ذاته، فهو يقترح خمسة أنواع من العلاقات يرتبها في بناء صاعد، حسب علاقة ودرجة حضور النص اللاحق بالنص السابق، ولا يهمنا من هذه العلاقات سوى العلاقة الرابعة التي يسميها بالعلاقة الهيبر نصية أو النصية المتفرعة (المتشعبة)، ويعرفها بأنها علاقة تجمع نصا لاحقا (متفرعا أو متسعا) مع نص سابق (أصل أو منحسر)، وهو ما يعني حدوث نوع من التماهي الحاصل بين نصين، إما بواسطة تحويل وتغيير نص سابق عبر نص بديل أو الاكتفاء بتقليد نص لنص سابق. ويدخل تحت دائرة هذا النوع كل أنواع المعارضات والمحاكاة الساخرة. أهم إشكالية تواجه الناقد وهو يتفحص التفاعل النصي بين النصوص هي مسألة الحدود، حدود نصه (النص اللاحق – غير الشرعي ) مع نصوص غيره (النص السابق – الشرعي) من جهة، وحدود النص الإبداعي مع النص النقدي من جهة ثانية، إضافة إلى تساؤلات تتعلق بأسباب هذا الاستدعاء أو التماهي وكيفيته. على مدار تاريخ الأدب تعددت محاولة الكُتّاب على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم لاستعادة أعمال سابقة كنوع من القص الشارح، أو كتابة “متخيل على متخيل”، وقد أخذت الاستعادة أشكالاً متعدِّدة بعضها حرفي والبعض الآخر جزئي، أي باستعادة شخصية من شخصيات العمل واستثمارها في بناء عمل جديد يتوازى ويتقاطع مع تيمة العمل السابق، ولكن في سياق مختلف عن السياق الذي جرت فيه أحداث الحكاية الأولى وبتفاصيل تتناسب مع الواقع الحالي وهو المغزى من عملية الاستدعاء. ومن هذه الأعمال التي تَناسل معها الروائيون، رواية “الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت إكزوبيري التي ألفها عام 1943 كإدانة لواقع أفجعه من جرائم ومآسي الحرب العالمية الثانية، وما سببته من قتل للمشاعر وتخريب للقيم الإنسانية. الرواية التي حظيت بمقرؤية كبيرة على مختلف اللغات التي ترجمت إليها (أكثر من 280 لغة)، كانت تعزف على عوالم البراءة والنقاء والفطرة في انتقاد تام للشرور التي حاقت بالإنسانية بسبب الأنانية والأطماع وغيرها، ومن ثم جعل أنطوان من روايته أنشودة للسلام والمحبة والبساطة. فلئن كان الخيال جعل الطفل يتخيّل الخروف داخل الصندوق، فإنه أيضًا هو الذي ألهم الكتاب أن يستعيدوا هذا الأمير من جديد في مروايات عربية وعالمية، كثيرون حاولوا تخيُّل ماذا كان سيحلُّ بالطفل الصغير لو استمر على كوكبنا وكيف ستكون مراهقته وكذلك شيخوخته، هل القيم التي سعى لغرزها في رحلته الاستكشافية سيكون لها وجود بعد ما حلّ بالعالم من متغيرات تفوق ما حلّ به من جراء نكبات الحرب العالمية؟ عودة الأمير الاستعاده الأولى قام بها الأرجنتيني أليخاندرو غييرمو رومرس تحت عنوان “عودة الأمير الشاب” (الأهلية للنشر 2021، ترجمة نهى أبوعرقوب)، أما الاستعاده الثانية فكانت من نصيب الفلسطيني - اللبناني نبيل أبوحمد تحت عنوان “شيخوخة الأمير الصغير” (الدار العربية للعلوم، ناشرون 2021)، وفي الاستعادتين تمّت الاستعانة برسوم توضيحيّة على نحو ما فعل إكزوبيري بنفسه، وكذلك نبيل أبوحمد، أما أليخاندرو فقد استعان بصديقته لوري هاستينغز لتقديم رسوم تتلاءم مع طبيعة الشاب ورحلته مع رفيقه في الطريق منذ أن عثر عليه على جانبي الطريق. السؤال الذي يتبادر إلى قارئ النصين: ما هي دوافع العودة عند الأرجنتيني والفلسطيني - اللبناني؟ ويا ترى ماذا رأى الأمير الصغير في رحلتي الشباب والشيوخة؟ وهل ندم على العودة بعدما تغيّر ما تغيّر، وقد فارق عالم البراءة والفطرة الذي كان ينشده؟ يجب أن نعترف أن إكزوبيري نفسه قد هيّأ لهذه العودة، بل حرّض عليها، فهو لم ينازعه شك في عودة أميره الصغير في زمن غير زمنه، وكأنه كان يبصر الغيب لحظتها، وقد تماثل إيمانه بعودته مع إيمان بينيلوبي زوجة البطل الإغريقي أوديسيوس في الأوديسة وهي تغزل، بعودة زوجها من الحرب التي طالت عشرات من السنين، لذا نراه في نهاية نصه، وهو يتساءل عن مصيره وماذا آل به هكذا: ماذا وقع على كوكبه؟ ومن فرط شغفه بمعرفة ما سيكون عليه مصير هذا الأمير ينفتح خياله على احتمالات عدّة من قبيل “قد يكون الخروف أكل الزهرة!”، ثم ينفي هذا الاحتمال قائلاً “بالتأكيد لا! إن الأمير الصغير يُحكم إغلاق الغطاء الزجاجي على زهرته كل ليلة، ويراقب خروفه جيدًا”. ومرة ثانية يفرط أكثر من المتوقع في الخيال، ويقول محدثًا نفسه “قد يحدث أن نسهو مرة، ويكون هذا كافيا! قد ينسى ذات مساء وضع الغطاء الزجاحي أو قد يخرج الخروف ليلاً من دون ضجيج (…) فتتحوّل كل الجلاجل إلى بكاء” (الأمير الصغير: ص 95). ومع فشله في العثور على تخيّل لمصير الطفل، إلا أنه يأمل في العثور عليه، لذلك يمد القراء بمواصفاته بعد أن يطلب منهم أن ينتظروا قليلا تحت النجمة “فإذا ما قصدكم طفل، وإذا بدا ضاحكًا، وكان شعره بلون الذهب”، وعندما يعثرون عليه، ينصحهم “كونوا إذن لطفاء! ولا تتركوني في غابة الحزن (…) اكتبوا لي بسرعة بأنه رجع” (الأمير الصغير ص 96). جاءت العودة على نحو ما آمل إكزوبيري، ولكن جاءت في مكان غير الصحراء الأفريقية التي التقاه فيها ربان الطائرة صدفة، وتجوّل معه، فالتقاه بطل أليخاندرو في قارعة الطريق أثناء رحلة سفره إلى باتاغونيا، أما نبيل أبوحمد فجعل العودة عكسية، حيث رائد الفضاء الذي تتعطل سفينته، يصعد إلى كوكبه بعد حادثة الاصطدام، في مقارنة بين عالم الأرض الذي ينتمي إليه رائد الفضاء، والكويكب الصغير الذي يعيش فيه الأمير وقد صار شيخًا. الفلسفة العميقة ☚ المؤلف يرى أن زمن العزلة لا ينتج فلسفة بل أعظم الفلسفات خلودا تأتي من تجارب البشر والاحتكاك بمشاكلهم الروابط بين الأعمال الثلاثة لا تكمُن في حضور شخصية الأمير على اختلاف المرحلة العمرية التي ينتمي إليها (طفلا، شابا، شيخًا) وفقط، وإنما تكمن في الفلسفة التي سعى الأمير الصغير لتمريرها في النص الأول أثناء تجوالاته في الكواكب المختلفة مع ربان الطائرة، فالفلسفة هي المصدر الأساسي للحكاية. الاختلاف المهم أن بين عالم طفل إكزوبيري وعالمي الشاب والشيخ في ما بعد، أن البساطة والبراءة اللتين نشدهما إكزوبيري في روايته الأصل “الأمير الصغير” لم يعد لهما وجود في خضم هذه الحياة المتلاطمة واللاهثة، وما يميزها من عوالم تكنولوجية أذهلت الأمير عندما عاد في رحلته مع نبيل أبوحمد (شيخوخة الأمير الصغير). من الاختلافات بين النصوص أن نبيل أبوحمد جعل الطيار رائد فضاء يصعد إلى الفضاء في مهمة إصلاح مرصد على كوكب القمر، رحلة عكسية للأمير الصغير الذي نزل من كوكبه إلى الأرض، والتقى الطيار في الصحراء الذي تعطلت طائرته، ومثلما تعطلت طائرة الطيار، تصطدم سفينة الفضاء بجسم صُلب، وكادت المركبة أن تتعرض للخطر لولا أنها انجذبت إلى الكوكب الصغير الذي عرفه لنا من قبل إكزوبيري بأنه “كوكب لا يزيد حجمه عن حجم بيت عادي يُدعى ‘النجيمة ب – 602′”، هناك يلتقي بالأمير، ولكن بعد أن صار كهلاً الغريب أنه ما زال مهتمًا بكوكب الأرض، حيث يقوم بتدريس طلابه كل ما هو متعلّق بهذا الكوكب الذي نزل إليه وهو صغير. وفي نص الأرجنتيني كان سبب نزول الأمير الشاب إلى كوكب الأرض هو البحث عن الطيار بعدما رآه في حلم وقد ركبا معًا الطائرة، يُحلّقان على منخفض ورأيا الغزلان والخيول والماعز والأرانب والثعالب تركض حرة، كما شاهدا سمكات السلمون المرقط، ونزلا بعدها إلى الأرض فوق تلّة مكسوة بالعشب، وهناك اصطحبه الطيار إلى سفح التلة حيث قطيع من الأغنام البيضاء يترعى مع حملانها، وقال له الطيار “إنها لك، لقد ربيتها لك”، وعندما أراد معانقة صديقه الطيار، استيقظ وحيدًا على كوكبه المظلم الصامت وعاد إلى الأرض بحثًا عن الربان الذي أوهمه أو خدعه كما أوحت له العشبة، وأخبرته بأنه لا يوجد في الصندوق خروف، فكانت عودته بحثًا عن الحقيقة الغائبة عنه. ومن الاختلافات بين النصوص أن مدة إقامة الأمير على كوكب الأرض كانت ثمانية أيام، في حين كانت إقامة رائد الفضاء في كوكب الأمير الذي صار شيخًا الذي اسمه “مونو صانيتو” هي ثلاثة أيام على نحو ما فعل الأرجنتيني أيضًا، وإن كان الأرجنتيني جعل فضاء الرحلة الأرض وبالسيارة. فلسفة أكزوبيري التي مررها عبر حوارات الطفل الصغير مع الطيار تتجاوز بساطة الرواية التي تسرد حكاية الطيار الذي تعطلت طائرته في الصحراء، وفيها يقترب منه طفل صغير هبط هو الآخر من كوكب صغير إلى الأرض، يأخذه إلى عوالم أخرى عبر أسئلته البسيطة التي تدهش الطيار، وعبر رحلة استغرقت ثمانية أيام يتجول الطيار مع الطفل عبر الكويكبات في محاولة لاستكشافها. فهو يضمر احترامًا لعالم الأشياء الصغيرة، حتى أنه يعتقد أن العالم بإمكانه أن يختل توازنه إذا ما أكل خروف زهرة في مكان مجهول من الكوكب، وبالمثل الزهرة لا تكف عن إنتاج أشواكها مع أنها تعرف أنها لا تحميها، فقيمة الحياة في العمل، وأن الألم جزء من الحياة، ومن ثمّ يجب ألّا نقف عنده. لكن أهم درس منحته لنا الحكاية هو نهم التعلم والمعرفة؛ فرحلة الطفل مع الطيار كان الغرض منها الاكتشاف الذي هو بداية المعرفة، ثم جاء الدرس الأهم المتمثل في تعزيز ملكة الخيال، وهي تلك التي منحت الطفل إمكانية العيش على الكوكب وهو يتطلع إلى النجوم في السماء، أو متخيلاً أنه يقود الخروف، بدءًا من تخيله أن ثمة خروفًا داخل الصندوق، فالخيال هو رديف الأمل، وهو ما استغله نبيل أبوحمد في الثورة التكنولوجية التي ميزت كوكب الأمير، فلولا الخيال والعلم ما تحقق منها شيئًا. وكأن إكزوبيري يريد أن يقول لنا ما دمت تعيش فعليك بالأمل، فالأمل هو وقود الحياة، والذي يجعلك تتشبث بديمومتها، فلولا الأمل لتوقفت الحياة. هكذا بكل بساطة طرح إكزوبيري فلسفته العبقرية في رواية كتبها للصغار فإذا هي تستهوي الكبار والصغار، لأنها لمست دواخلهم وأحاسيسهم ونقاط ضعفهم التي يتغاضون عنها، فكان الطفل/ الأمير الصغير بمثابة الناقوس الذي جعلنا نلتفت إلى داخلنا. الأمير الشّاب نظرًا إلى حالة الانعزال التي قضاها الأمير في كوكبه، تضاءلت معرفته، ومن ثمّ كانت الرحلة مرة ثانية إلى الأرض كي يستكمل ما جهل بسبب هذه العزلة التي لم تكسبه إلا مزيدا من التوقع وعدم الإدراك، فكانت المواجهة بينه وبين العشبة التي كانت بالنسبة إليه بمثابة الضمير، أو المطرقة (لو استعرنا تعبير نيتشه) التي جعلته يلتفت إلى ذاته، ومع الأسف كاد يكرّر الخطأ بالبحث عن الطيار الذي أوعزت له العشبة أنه خدعه، بأن أوهمه بأن داخل الصندوق خروفًا، على غير الواقع، حتى يلتقي برفيق الطريق المسافر الذي كشف عن فلسفة عميقة أراد أن يمررها للأمير الشاب الذي جاء من كوكبه وقد حدثت متغيرات كثيرة، أهمها أن الطيار الذي صاغ فلسفته وغزا تصوراته بالخيالات قديمًا، قد رحل في رحلة مأساويّة، غادر دون أن يعرف أحد إلى أين ذهب، في تحقّق لنبوءته في الرواية عن مصير الأمير الصغير. استغرقت الرحلة ثلاثة أيّام لوصول الرفيق إلى المدينة (باتاغونيا) كي يلتقي أصدقاءه، وقد واكبت الرحلة مصادفات كان لها بالغ الأثر في تغيير فكر الرفيق، ثلاثة مواقف كان من شأنها أن تقلب حياة الرفيق رأسًا على عقب، خاصّة تصوراته للناس. وهو ما يشير إلى أن الحكمة ما زالت ترافق الأمير على الرغم من دخوله طور الشباب. كانت الدهشة المعلم البارز في شخصية الأمير الشاب طوال الرحلة، فما إن استجمع قواه بعد التعب الذي كان باديا عليه اطردت أسئلته هكذا: ما هذه الآلة الغريبة التي نسافر فيها؟ وأين جناحها؟ كشفت أسئلته عن حالة البراءة التي كان عليها من قبل طفلاً، فهو لم يعرف مثلا السيارة ولا الطريق، وماذا سيحدث لو خرجت السيارة عن الطريق الذي تسير عليه؟ وهل هناك طرقات كثيرة في الأرض؟ ماذا تعني كلمة مشكلة؟ رويدا رويدا بدأت تتكشف عوالم هذا المجهول، فبداية هو قادم من مكان ليس فيه طرقات، يهتدون بالنجوم، ثم يكشف عن محاولاته كي يصل إلى الأرض، ومناورته لحل هذه المشكلة بأن اضطر إلى تقسيم المسافة والتوقف في سبع محطات من كويكبات مختلفة. وكان الغرض من هذه التفصيلة ما أراد أن يمرره من كيفية حل المشكلات، وأن على الإنسان أن يكتشف مفاتيحه بنفسه. ثم راح يستعرض مشاهداته في رحلته، وما تخللها من فلسفة لم تبعد عن تلك التي اتسم بها الأمير الصغير، فهو إلى الآن لا يعى لماذا يشرب الإنسان لينسى، فالأجدى عنده أن يواجه الإنسان الحقيقة، وعندها سيعرف الإنسان نفسه، فمعرفة الحقيقة وسيلة لمعرفة الإنسان لنفسه. ويعمم هذا بقوله إن دخول الإنسان في صراع مع آخرين مختلفين عنه: جيران، أقارب أشرار، ورؤساء في العمل، ظلم المجتمع، في حقيقة الأمر هو صراع مع ذاته، والنتيجة أن الصراع ينتهي إلى هزيمة هذا الشخص، والحكيم هو من يحيا في تناغم مع كل ما هو موجود. وعلى الإنسان قبل أن يسعى لتغيير أي شيء في العالم نحو الأفضل، عليه أولاً أن يغيّره في نفسه. ويسوق العديد من الأمثلة، فإذا نظرت في المرآة ووجدت وجهًا عابسًا، فيجب أن تبتسم، عندئذ تتغير الصّورة، والأمر كذلك بالنسبة إلى الجار العدوانيّ، فيجب أن تكون أنت ودودًا أولاً، وهلم جرّا، وفي النهاية يخلص إلى حكمة مفادها أن ثمة طريقة واحدة لتغيير العالم، ألا وهي أن تبدأ بنفسك. ☚ جعل نبيل أبوحمد العالم المحيط بالأمير الذي صار شخصيا نقيضًا لما هو على الأرض، بحضور تكنولوجي رهيب لا دخل فيه للبشر اللافت أن الأمير ليس وحده هو من يتمتع بفلسفة، فأيضًا الراوي أو رفيق الرحلة، فالراوي لديه الكثير من وجهات النظر في الحياة، فكما يقول “أن تعيش يعني أن تتعلّم، وأحيانًا يكون ما مرّ به الإنسان من ألم ومرض أعظم ثروة روحيّة يحصل عليها، فيجب أن نكون ممتنين للحياة التي أتاحت للإنسان أن يطوّر ذاته، بل يرى إمكانية تغيير القدر، وعلى الإنسان أن يزرع النقاء عندها سيغدو شفافًا”، ويستمر في طرح فلسفته هكذا “تخيّل نفسك سخيًّا وسوف تُغني بيئتك، تجدّد فإذا بنضارتك تطفئ الظمأ أينما حللت، ثِقْ بمُثلك وسوف تلهم الآخرين، عِ كينونتك وسوف تُوقِظ الآخرين، اتخذ هدفًا لعيشك وسوف تُحقِّق ما جئت من أجله”. عاد الأمير وقد فقد الصديق الذي كان يجعل النجوم تبتسم، والخروف الذي كان يرافقه في المساءات، والزهرة التي كانت تملأ حياته بهجة بحيلها وجمالها، كما أنه لن يرى العشبة التي كانت حاميته وناصحته، كما فقد كوكبه الصغير بسبب ثوران البراكين، هكذا عاد أعزل، لا مهرب له إلا البقاء، فالعودة مستحيلة. تبدو فلسفة الرفيق أعمق بكثير، وكأن المؤلف يقول إن زمن العزلة لن تنتج عنه فلسفة، بل أعظم الفلسفات خلودًا تأتي من تجارب البشر والاحتكاك بمشاكلهم والتعرض للمفاجآت عندها نستخلص العبر والعظات للآخرين، وهذا ما فعله الرفيق قائد السيارة للأمير الشاب الذي كان دومًا في موضع طرح الأسئلة، فإذا كان الأمير الشاب يائسًا من فقدانه كل شيء، وبمعنى أدق يائسًا من فقدان متعة العيش وسعادته الخاصة، فإن الرفيق يرشده بألا يحزن فهذا ليس نهاية العالم، فيكفي ما يمتلكه من رغبة في التغلب عليها، الدرس الذي يستخلصه الرفيق هو القدرة على المواجهة، فالأمير تخلّى عن الأمان الظاهري بحثا عن الحل، فالإنسان إذا ركن في مكان لن يجد السبيل لحل مشاكله، ويستلهم من رحلة الأمير أنه مع المشقة والإنهاك اللذين بديا عليه، إلا أنه وصل إلى مكان قاده إلى وسيط/ شخص استطاع أن يقوده. دوما لدينا ما بوسعنا فعله، حتى لو كنا أنفسنا لا نُصدّق ذلك. فكل شيء في كوكب الأرض له قرينه في الرحلة الأولى، فالناس الجادون الذين ينفر منهم رفيق الرحلة، ويرى أنهم ضحايا حبهم للنظام، بل هم مع الأسف غير سعداء، فالتغيرات مهما قل شأنها تثير غضبهم وتقلقهم، هولاء يقابلهم في عالم الأمير الشاب مشعل المصابيح الذي لم يكن قادرًا على الخروج عن رتابته، ومع معرفة عدم جدوى عمله، فهو ينير المصابيح في النهار! هؤلاء الأشخاص عند الرفيق عبورهم في الحياة برّاق وعابر مثل خبر نعيهم، حتى ولو كانوا يراكمون العديد من الأوسمة والشهادات، العبرة بالتأثير والشعور بالسعادة التي يُحقّقها الإنسان لنفسه، لا لهاثه في الدنيا للظفر بكل متاعها، وكأن مهمته الوحيدة هي الجري لحصد المزيد. لا يتوانى رفيق الرحلة عن تقديم النصائح للأمير الشاب، فعندما يرفض أن يكون الأمير شبحًا لأن الأشباح موجودة حسب تعريف الرفيق، وهي تنحصر في الناس الذين لا قلوب لهم، ومن ثمّ يرشده لكي يكون محبوبًا، فعلينا مثلاً أن نبذل كل جهدنا في كل ما نفعل حتى ينعكس على أرواحنا، وبالمثل عليه أن يقدم خير ما عنده لكل إنسان تعبيرًا عن المحبة، عندئذ ترى العالم، وكأنه مرآة مكبرة، يعكس كل ما قدمته بلا مقابل ويعيده إليك أضعافًا. ثمة مفارقة أن الرفيق دومًا ما يسهب في الشرح والتحليل وكأنه إزاء نظريات فلسفية، في حين أن الأمير الشاب يقوم بأشياء بسيطة تكون تطبيقا على هذا الكلام، موقفه من الحنو على الكلب الذي اصطدمت به سيارتهم، ثم منحه هذا الجرو للأسرة التي سخرت منه من قبل بسبب ملابسه. كما لا يلوم الأمير الأسرة على تخليها عن الكلب آلاس، فهو من قبل قد تخلّى عن زهرة، فكل اختيار ينطوي على تخلٍّ، الدرس الذي يمرره الرفيق أثناء الإقامة في الفندق، ورؤيتهم للعائلة تصطخب أثناء العشاء، هو أن السعادة تكمن في أشياء بسيطة، فالجرو آلاس الذي قدّمه الأمير الشاب للأطفال كان بمثابة السّحر في تغيير حال الأسرة التي كانت قبل قليل يبدو عليها البؤس. حالة التشكيك التي غرستها العشبة في داخل الأمير تحوّلت إلى سُخط على صديقه الطيّار، لكن الرفيق الجديد استطاع أن يرشده إلى الفوائد التي حصل عليها من جرّاء فِعل الطيّار، فيكفي أنه كان يشعر بالسّعادة مع الخروف، ورؤية النجوم وغيرها، ثمّة اختلافات كثيرة رآها في كوكب الأرض على عكس رحلته السابقة، فالحيوانات والزهور لم تكلِّمه على نحو ما فعلت سابقًا، كما أنه لم يجد أي بشر يرشده، بل وجد نفسه مرهقا وجاهلا، لا يدري إلى أين يمضي، فسقط منهكا حيث وجده رفيق الطريق. في رحلة عكسية يذهب رائد الفضاء في نص “شيخوخة الأمير الصغير” إلى كوكب الأمير الصغير، بعد الحادثة التي تعرضت لها مركبته، وهناك يلتقي الأمير وقد تغيّر وصار شيخًا، على نحو ما تغيّر العالم، وكأنها النبوءة التي أقرّ بها الراوي في الرواية الأصل (الأمير الصغير)، بأن العالم سيتغير، فلم يعد مكانًا للخروف أو الصندوق أو حتى الزهرة، بل لا يوجد فيه بشر من عينة الحاكم المستبد المتوهّم أن كل الناس رعايا له “وعلى النجوم أن تطيعه”، أو الرجل المُعجب بنفسه مع أنه الوحيد على الكوكب، أو حتى السّكير الذي يَسكر لينسى سكره، وبالمثل لا وجود لرجل مشعل المصباح الذي يشير إلى الإنسان الذي ينفذ الأوامر آليًّا، لا يوجد مثل هذا أو ذاك وإنما عالم الروبوتات (مع أنها تنفذ التعليمات آليًّا) والأجهزة والمباني الشاهقة. يبدو العالم الذي يواجه رائد الفضاء ويتجوّل فيه عالمًا مثاليًّا بامتياز، يُفارِق العالم الأرضي الذي هو قادم منه، فلا شيء يشبه ما على كوكبه، فالمباني تأخذ طابعًا رأسيًّا، أما أفراده فيحملون رؤوسًا على هيئة علامة استفهام وتساؤل، إضافة إلى سلوكيات البشر وعاداتهم تختلف عن أمثالهم في عالم الأرض، فهم نباتيون يؤمنون بأن قتل الحيوانات وأكل لحومها يحوّل الإنسان إلى قاتل. وكذلك علاقتهم بالآخر تتسمُّ باحترام له، ومن ثم “فهم لا يمتلكون جيشًا ولا استراتيجية دفاع”، ولا يعني هذا أنهم غير مُحصّنين من أيّ اعتداءات خارجيّة، وعلى العكس فطبيعة الكوكب الحراريّة تمثّل جبهة دفاع قوية لمجابهة جموح أيّ متهور. والقوانين المنظِّمة لحياتهم تعتمد المساواة بين الجميع. أما نظامهم السياسي فهو نظام قائم على ديموقراطية متوازنة يجسدها مبنى البرلمان الشفاف. الشيء الغريب مع التقدم والثورة التكنولوجية الهائلة يكمن في امتثالهم لقوانين العرف في شؤون حياتهم، وإذا حدثت جريمة – مع أن حدوثها نادر جدًّا – يأخذ العقاب شكلًا بدائيًّا أشبه بالتجريس في الثقافة الشعبيّة، الشيء الآخر أن حرية الآخرين تكون على حساب الفرد ذاته. ☚ فلئن كان الخيال جعل الطفل يتخيّل الخروف داخل الصندوق، فإنه أيضًا هو الذي ألهم الكتاب أن يستعيدوا هذا الأمير من جديد في مروايات عربية وعالمية الشاغل الأساسي للذين يعيشون على هذا الكوكب هو حقهم بالاستمتاع بالحياة، فعلى حدّ تعبير الأمير الشيخ “نحن مخلوقات عُليا تستحق الرفاهية والعيش المثالي”، في إشارة ضمنيّة إلى عالم الأرض النقيض حيث كل شيء يدعو إلى الانسحاب من الحياة، بل هو قتل لروح المثابرة والعمل. جعل نبيل أبوحمد العالم المحيط بالأمير الذي صار شخصيا نقيضًا لما هو على الأرض، بحضور تكنولوجي رهيب لا دخل فيه للبشر، عالم مثير ولافت في رسالة إلى التغيرات التي حاقت بالعالم، وإن التغيير لم يقتصر على كوكب الأرض بل أيضا لحق بالكواكب أو الكويكبات الأخرى، العجيب أن من صنع هذا العالم الخيالي هو الإنسان الذي فشل من قبل في مروية سانت إكزوبيري في معرفة كنه رسمة ثعبان البوا واعتبرها قبعة، وهي مفارقة مهمة، فكأن الخيال الذي لم يَعتد به – بل وسَخر منه – إنسان كوكب الأرض هو المسؤول عن هذه الطفرة التي تميّز كوكب الأمير الشيخ. ومن الفروق بين العالميْن أن عالم البداوة الذي رآه على كوكب الأرض، وقد فارقه إلى عالم الحداثة وما بعد الحداثة، حيث الوثبة التكنولوجية، وعالم الروبوتات واللامرئيات. عودة الأمير لم تكن عشوائية حتى ولو لم تكن بذات الصورة التي بدا عليها في النص الأول، بل كانت كاشفة لحجم المتغيرات التي نعيشها في عالم اليوم، وما حاق به من تبدّل القيم، وإحلال قيم السوق بدلاً من قيم الاستعمال، وسيطرة النزعة الاستهلاكيّة، وعلو الأنا والفردية، وفي إحدى صورها كشفت عن نضج وعي الأمير ومدى تكيفه مع العوالم المختلفة عن عالمه.
مشاركة :