قدم ابن قتيبة الدينوري (231هـ – 276 هـ) كتاب “أدب الكاتب” الذي كان بمثابة مانفيستو كاملا لفنون الكتابة وأحوالها، وما يتصل بعلمها ومهارتها، وما يحتاج إليه الأديب كي تصيبه الحرفة، فثمة كتاب عن المعرفة، وآخر في تقويم اليد، وثالث في تقويم اللسان، منها متصل بمخارج الحروف ومدى تقاربها، وباب أخير فيما يتصل ببنية الكتابة وإشكالياتها، فذكر فيه معاني أبنية الفعل. أما ياقوت الحموي (575 ه- 626 ه) ففي كتابه “معجم الأدباء: أو إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب” فأجمل فيه سير النحويين واللغويين والقراء المشهورين والكتاب المعروفين والمؤرخين والنسابين، والوراقين، وأصحاب الرسائل وأرباب الخطوط، غير مكتف بسيرهم؛ مولدهم وآثارهم وشيوخهم وتلاميذهم، وإنما صور جانبا من حياتهم المعيشية، وعاداتهم أثناء الكتابة، وسلوكياتهم التي كانت في بعضها غريبة، كـأن يهتم أحدهم بجمع الحيات، وآخر بمطاردة الكلاب وقتلها، إلى جانب اهتمامه بأزيائهم وعمائمهم بما يناسب كل حرفة، كما قدم فصلا رائعا عن القلم آلة الكتابة.الكتاب بقدر ما هو رصد لحيوات الآلاف من العلماء في كافة التخصصات، إلا أنه من ناحية ثانية يمكن من خلاله قراءة ثقافة عصر وسياق اجتماعي وسياسي وحالات الإكراهات التي مورست على فعل الكتابة، والتي كانت في معظمها مرتبطة بالسلطة، وكأن العلاقة الضدية الحدية بين الكتابة والسلطة قديمة، لم تقف عند عصر دون الآخر، بل يمكن أن يعد الكتاب بصورة أعم سجلا أثنوغرافيا لحيوات هؤلاء العلماء في هذه الفترة. الاهتمام بالكتابة وأحوال الكتاب وطقوسهم، يؤكد أن فعل الكتابة مغامرة، تستوجب المخاطرة وكسر الروتيني والطقسي والمألوف من أجل اقتناص لحظة الخلق والتشكيل، ومن ثم صار سؤال الكتابة واحدا من أكثر الأسئلة ترددا على مدار تاريخ الكتابة، ودائما يطرح في كافة المناسبات على الكتاب؛ لما يكشفه من خصوصية بفعل الكتابة، وفي الوقت ذاته تمدنا بصورة عن حالة الكتابة، أو النص قبل الكتابة، وما يطرأ عليه من تغييرات في المسودات. وبصورة عامة تمدنا بصورة كلية عما يمكن أن نطلق عليه سيرة الكتابة أو “الكتابة عن الكتابة”، وهو ما يمثل إشكالية، في ظل التقنيات الحديثة التي يستخدمها الكتاب، على عكس ما كان سائدا من قبل، حيث استخدام أقلام الرصاص، أو الآلة الكاتبة، أو حتى الاستعانة بمختزل يقوم بالكتابة كما كان يفعل دوستويفسكي. كما أن تتبع آليات الكتابة وحالاتها، يكشف من جانب ثالث عن تطور الكتابة والوسائل التي يلجأ إليها الكتاب كعنصر داعم في عملية تسهيل الكتابة، وإن كان هناك من يزيد بوصف يومياته الخاصة، ليقدم صورة الفنان في حالة الكتابة وتحديد أوقات الكتابة المناسبة التي يكون فيها ذهن الكاتب صافيا، وهو ما يضعنا في معترك الكتابة ذاته وحالة الشد والجذب لاستقطاب الأفكار. الفرح المختلسفي ضوء هذا المعنى السابق، طرحت صحيفة الغارديان البريطانية، ضمن سلسلتها عن روتين وتجارب الكتابة، سؤالها في هذا الشأن (عن روتين الكتابة أو الكتابة عن يوم في حياة كاتب) على 59 كاتبا وكاتبة، في محاولة لسبر أغوار الكتاب عن علاقتهم بالكتابة، والاقتراب من لحظة الخلق الحميمية، تلك اللحظة المدهشة والملغزة للكتابة، لحظة الخلق أو الفرح المختلس كما صور من قبل الشاعر أمل دنقل الشعر، وهذه المقاربات ضمها كتاب بعنوان “يوم من حياة كاتب: 59 كاتبا يتحدثون عن روتين الكتابة”، بترجمة علي زين، ومن إصدارات منشورات تكوين. معظم الكتاب الذين طرح عليهم السؤال، كانوا من الذين توجت أعمالهم بجوائز أدبية مرموقة ما بين مان بوكر، وأم . فورستر من الأكاديمية الأميركية والفنون والآداب، وجائزة الغارديان وجائزة الكومنولث وغيرها من جوائز تؤكد تقدير المؤسسة النقدية (الرسمية) لمنجز هؤلاء الكتاب، ومن ثم كان الغرض من السؤال هو تأمل (أو استكشاف) عملية المخاض الإبداعي، واستجلاء صورها عند الكتاب، إلا أن الإجابات انحرفت – دون قصد – عن المعنى الظاهر أو السطحي للسؤال؛ لتكون بمثابة وثيقة أدبية ليس عن يوم في حياة كاتب، وإنما عن فكرة الكتابة بمعنى أشمل وأعمق، ومناسباتها وأوقاتها، وحوافزها وملهياتها، والصراع لاقتناص لحظة الإلهام . كما بدت الإجابات من زواية أخرى، وكأنها خارطة طريق أو أشبه بنصائح مباشرة من جيل الآباء (الأسلاف) إلى الأبناء (الأخلاف) أو الكتاب الجدد من خلال تقديم دروس عملية من التجارب الشخصية للكتاب عن علاقتهم بالكتابة، واقتربت في إحدى صورها بما يعرف الآن بورش الكتابة، أو منهج مواد الكتابة الإبداعية الذي ألحقته بعض الجامعات في مقرراتها؛ لاستجلاء خلاصات التجربة، أو مهارات الكتابة الإبداعية أمام المبتدئين من الكتاب. الكتاب يقدم وجهات نظر مختلفة لـ 59 كاتبا وكاتبة، ما بين كتاب رواية أو سيناريو أو شعر، وهذا التعدد على مستوى النوع الأدبي والهوية الجندرية – ذكر – أنثى – له دلالته المهمة، فالإجابات كشفت عن توحد في الرؤية بين الكتاب (الذكور والإناث)، وهو ما يشير إلى أن أرق الكتابة أو إشكاليتها واحد لا يختلف باختلاف الهوية الجندرية، بلا كلاهما سواء يكابد ويعاني، وثانيا يشير إلى أن الفنون الكتابية على اختلافها تتمثل حالة خلق واحدة، ومن ثم لا فرق بين طقوس الشاعر والروائي. فعملية الخلق الفني لا تختلف من جنس أدبي إلى آخر، بل هي لحظة مماثلة، بكل ما تسببه من مكابدة (أو جهد) في مطاردة الفكرة، ثم معاناة العثور على الفكرة، إلى صراع لحظة الخلق والولادة. وقد شبه أحدهم عملية الخلق هذه بأنها تبدو غامضة فهي على لسان إحدى شخصيات روايته “كـأنها فطيرة غير قابلة للذوبان… ولغز من إمكانيات غامضة”.السمة المشتركة التي تستشف من الآراء الواردة من قبل الكتاب على اختلاف هوياتهم الجنسانية (الجندرية)، وجنسياتهم وثقافتهم وبيئاتهم (وقد ضمت أحد الكتاب العرب هشام مطر)، أن ثمة جيلا جديدا نشأ في ظل هيمنة التكنولوجيا الحديثة، وسمات العصر المتطور واللاهث وراء الاختراعات والاكتشافات، وما سببه من معاناة على المستوى المادي، هذا الجيل يحمل في جيناته التمرد على الأسلاف، الذين كانوا يقدسون الطقسية أثناء الكتابة، فالجيل الجديد اتسم بروح التمرد وكسر الطقسية ونمطية الروتين، وصار فعل الكتابة عنده استجابة للحظة الخلق الفني أينما حضر المخاض وفي أي زمان. ومثلما تم كسر قدسية أماكن الكتابة، تم كذلك كسر قدسية زمن الكتابة، فلم يعتد الكتاب بالأوقات المثالية التي كان يتباهى بها الكتاب قديما، وتعد أحد ملامح الكتابة عند بعضهم، فثمة مراوحة بين الاستيقاظ مبكرا أو تفضيل ساعات الليل المتأخر، فالكتاب ينقسمون إلى فئتين: الأولى، “فئة البوم”؛ أي الكتاب الذين يكتبون متأخرا في الليل، والفئة الثانية ما أطلق عليهم “فئة القبرات”؛ أي الذين يستهلون يومهم في وقت مبكر ويباغتهم الخمود مع وجبة الغذاء. وهناك من كان يضطر إلى تفضيل أوقات انصراف الزوجات إلى العمل، والأبناء إلى مدارسهم، ويلزم نفسه بمواعيد عودة الزوجة في الكتابة، وكأنه في دوام رسمي. كما أن الالتزام بعدد ساعات معين هو الآخر لم يعد مقدسا، فالمدة تتراوح ما بين ثلاث ساعات في أدنى مستوى، إلى ست أو سبع وثماني ساعات كأقصى معدل يومي من ساعة العمل الكتابي، يحرص كثير من الكتاب على الوصول إليه، باستثناء من لديهم حرف أخرى، تضطرهم إلى الاكتفاء باقتناص ساعات محدودة من عملهم الرسمي للتفرغ لشيطان وإغواء الكتابة. هذا التمرد من قبل الكتاب، صاحبه تمرد على مستوى شكل غرفة الكتابة (المكتب) ومحتوياتها، فلم يعد حضور المكتب كجزء أساسي من عملية الكتابة، وما يصاحب الحالة من تجهيز الأقلام، واختيار الأوراق المناسبة لنوع الأقلام، وإعداد عشرات الفناجين من القهوة المسبقة قبل الدخول في عملية المخاض، بالأمر المهم، فمثلما حدث التمرد على طقسية الزمان والمكان، تم التمرد أيضا على كلاسيكية الحالة الكتابية، فقديما كنا نسمع عن عادات غريبة أثناء الكتابة، ففكتور هوغو – على سبيل المثال – كان يخلع ملابسه كلها ويأمر خادمه بأن يخفيها حتى يمنع نفسه من الخروج، في المقابل كان نزار قباني، يرتدي ملابسه وكأنه ذاهب إلى موعد غرامي، أما أرنست هيمنغواي فكان يرتدي حذاء أكبر من حذائه، كأنه ذاهب إلى رحلة صيد، ونجيب محفوظ كان يرتدي ملابس رسمية أثناء الكتابة، ويلزم نفسه بعدد من الساعات لا تقل عن عدد ساعات العمل الرسمي، وإن كان يكسر انهماكه براحة قصيرة بعد الغداء.هناك من كان يحضر أقلام الرصاص لتكون جاهزة أثناء عملية الكتابة فلا ينصرف لتجهيز أي منها وهو مشغول بالكتابة، أو آخر يهتم بنوع الورق كألكسندر دوماس الأب، فكان لا يكتب إلا على الورق الأزرق لكتابة الروايات، والأصفر لكتابة الشعر، أما المقالات فكانت بالورق العادي، وعندما اضطر للكتابة على ورق أبيض أثر سلبا على أسلوبه، في مقابل هؤلاء كانت جين أوستن تعمل في صالون مزدحم وسط ثرثرة العائلة والأصدقاء ولم يكن لديها دفتر ملاحظاتأما مع هذا الجيل فقد طوح تمردهم بكل قدسية، وطقوسية، فافتقد المكتب مكانته المقدسة قديما، وحلت بدلا منه طاولات الطعام، أو الاكتفاء بمكتب صغير في غرفة النوم، أو طاولة صغيرة في غرفة المعيشة، إضافة إلى طاولات الحانات والمقاهي، والاكتفاء بطلب تخفيض الصوت من النادلين في الحانات. والأهم أنه تم الاستغناء عن أوراق الكتابة إلا فيما ندر، وبدأت الكتابة مباشرة على أجهزة الحواسيب أو الآيباد وغيرها من ألواح رقمية، صارت محمولة وسهلة التناول، كما تم الاستغناء عن مفكرة اليوميات التي كانت تسجل فيها لبنات الأفكار الأساسية، ولم يعد لها وجود، فصارت الأفكار تكتب مباشرة على أجهزة الحاسوب، والأجهزة اللوحية. ومع شيوع فكرة التمرد على عادات الأسلاف إلا أنه بقيت بعض العادات التي يحرص عليها الكتاب أثناء عملية الكتابة، وهي ما تعد مشتركا يجمع بين عدد وفير من الكتاب، هو توفير المزيد من القهوة أثناء عملية الكتابة، والموسيقي بلا شك عامل مهم أثناء الكتابة، فلا يوجد كاتب (وإن كان ثمة استثناءات) يستغني عن الموسيقى وتحديدا الكلاسيكية أثناء الكتابة، وكأنها صارت عنصرا أساسيا أو طقسا مهما لا يمكن الاستغناء عنه. يؤكد الكتاب أن بعض المهن كانت ذات تأثير سلبي على الكتابة، فالكاتب سيباستيان باري يعترف أن مهنته كسائق سيارة أجرة كانت مضيعة للوقت أثناء الكتابة، والكاتب أنتوني ترولوب، نظرا إلى أنه طبيب كان يبدأ عمله في الخامسة والنصف صباحا كل يوم وينهي 3000 كلمة في ثلاث ساعات قبل أن يترك المنزل ويذهب إلى مكتب البريد، الوظيفة والكتابة، وبالمثل الكاتب جون بوين، كان يعمل في مكتبة في دبلن، فيستيقظ في الخامسة صباحا كل يوم للكتابة قبل الذهاب إلى العمل. الكتابة العابرةبصفة عامة لم تعد فكرة الكتابة النمطية أو الكلاسيكية الملتزمة بمكتب مجهز بستائر مسدلة وموسيقى خافتة تنبعث من جرامافون قديم أو أسطوانة، هي المهيمنة، كما كانت في السابق، فهذه الفكرة تحطمت على يد الجيل الجديد اللاهث، الذي صار فعل الكتابة – عنده- حالة، وليس طقسا؛ حالة يستجيب لها أينما أتت وفي أي زمان ألحت؛ لا فرق بين الصباح الباكر أو الليل المتأخر، أومكان صاخب وآخر ساكن؛ فقد صار فعل الكتاب ديناميكيا يتفاعل مع كافة الأماكن والأجواء، فشاهدنا كتابا يمارسونه (أي فعل الكتابة) بمتعة وشغف في المواصلات العامة أو في المقاهي والحانات، أو على أرائك الحافلات أو في غرف الفنادق، أو على متن الطائرات، فلحظة المخاض هي الفاصلة، فمثلا الكاتب “جوناثان كو”، كان يفضل الأماكن العامة الصاخبة، فلا فرق عنده بين الكتابة في القطار أو الحانة أو صالة مطار هيثرو الخامسة، بل يعتبر أن الصخب عامل مساعد على البحث عن الفكرة التي يطاردها، وعن كيفية التغلب على الأصوات الصاخبة، فيقول إن الانغماس في العمل بعمق يجعل الأصوات تتلاشى من حوله تماما. فقد صار التفكير في الكتابة هو ما يشغل بعض الكتاب، ولا يفارقهم هذا أثناء ممارسة رياضتهم أو التجول أو أثناء تواجدهم في القطارات أو الحافلات. حتى أن بعض النقاد مثل مالكوم براد بيري، ينصح “بضرورة الكتابة اليومية حتى في يوم عيد الميلاد”، كنوع من الاشتغال بفعل الكتابة على الدوام دون وضع استراحات تعيق عملية الإبداع. ومن آثار الكتابة في الأماكن العامة أنها تكبح أي رغبة في تقديس “العملية الإبداعية”. عدم الالتزام بزمكانية الكتابة يشير إلى هذا التحول المهم الذي فرضته طبيعة العصر، والحركة اللاهثة التي استجابت لضغوطات الحياة وإكراهاتها، فلم تعد الكتابة هي المصدر الرئيسي للدخل، فالظروف الاقتصادية دفعت الكثير من الكتاب إلى الالتحاق بمهن بعضها قد يتصل بالكتابة، والبعض الآخر لا صلة له من قريب أو من بعيد، كمهن الطب مثلا، أو العمل كسائق أو محاسب في شركة، أو مدير مخازن وغيرها. ومع هذا فقد استطاع الكتاب مع المهن الصعبة التي لا تتيح لهم الوقت الكافي للتفرغ للكتابة، أن يتحايلوا على الوقت، فصاروا من أنصار الكتابة المبكرة الصباحية، قبل الذهاب إلى العمل، يمارسون غوايتهم في الكتابة.إذا كان بعض الكتاب استجابوا لسياق العصر وتكيفوا مع واقع العصر الحديث وما أنتجه من وسائل تكنولوجية ساعدت في تسهيل عملية الكتابة، فهناك فريق آخر ظل متمسكا بالتقاليد الكلاسيكية في الكتابة، كأن يفضل الكتابة الأولى بخط اليد، بقلمه المثالي من فئة روترنج، في كراسات سلك مقاس A4، أو المراجعة والتنقيح بعد الانتهاء من المعدل اليومي. لا يغفل الكتاب في أثناء اعترافاتهم عن طقوس الكتابة، ومخاضها، دور الأدوات الجديدة باعتبارها عامل سلب في عملية الكتابة وتشتيتها، ومن ثم يتم التحذير منها بضرورة تجنبها، فالمحمول والبريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي لديهم، تعد خطرا حقيقيا عند الكتابة، ومن ثم الكثير من الكتاب يقاطعها أثناء الدخول في عملية الكتابة، ويفضلون الوحدة والحياة البدائية بمعنى الحياة المفتقدة لوسائل الاتصال الحديثة السهلة والمربكة. وهناك من اعتبر التكنولوجيا بصفة عامة “العدو الحقيقي للكتابة”؛ فالكتابة على الحاسوب (عند البعض) تعني افتقاد التواصل بين الخط والأوراق والقلم، وكذلك يفقد الاهتمام بشكل ما يكتب، مثل: طول الجملة، والإيقاع، والنظم، والتكرار، والإسهاب، وهو ما لا توفره لوحة المفاتيح. واحدة من الإشكاليات المهمة التي طرحتها الشهادات، تتمثل في الحد الأقصى من الكتابة اليومية، فكان ثمة إلحاح من كثير من الكتاب على الحرص على الوصول إلى الحد الأقصى البالغ 1000 كلمة، وكأن الكتاب أمام تحد كبير، فلم يتنازلوا أن يمر اليوم الكتابي دون إنجاز هذا الحد المطلوب للكتابة، كما نلاحظ تباينا بين الكتاب في الإنتاج، فحصيلة الإنتاج اليومي في الكتابة هي الأخرى تكاد تكون مختلفة من كاتب وآخر، فعلى الرغم من التخطيط المسبق إلا أنه أحيانا لا يحظى الكتاب بما يلبي طموحاتهم الشخصية، أو حتى خططهم اليومية المرسومة بعناية. وإن كان هناك قلة حافظت على معدل يومي في الكتابة، فمثلا الكاتب الأميركي إيان رانكين يقول “إذا توفرت له القهوة والعزلة والموسيقى، سيكون قادرا على إنتاج مسودة رواية خلال 27 يوما”، ومع هذا الإقرار فهو ينفي أن يكون عنده روتين يومي لمعدلات ثابتة في الكتابة. المثير حقا أن الكتاب ما إن يتم إنجاز ما اقتطعوا على أنفسهم من معدل كتابي؛ حتى يفرغوا إلى ممارسة شؤون حياتهم العادية، من تسوق وتجول وزيارات أو الجلوس مع العائلة، وكأنهم يعطون أنفسهم مكافأة معنوية على الإنجاز.واحدة من النصائح الغريبة ما ذكرته الكاتبة ماغي أوفاريل، إذ ترى أنه “ليس أخطر على الكتابة الجيدة من وجود الكثير من الوقت والكثير من الحرية، فأنت بحاجة إلى ما يبعدك عن عملك، فيجب أن تجلس أمام الشاشة وبداخلك شوق شديد للكتابة وأن تستميت فيها، ويجب أن تجلس على مكتبك وبداخلك رغبة في إطلاق العنان في كل ما تفكر فيه”. وما يمكن اعتباره نصيحة مباشرة، ما ذكرته الكاتبة هيلاري مانتل برفضها فكرة كتابة الرواية بمعدل ثابت، وترى أن هذا عمل مرتبط بالأبحاث والمحاضرات والمراجعات لكن لا ينتمي إلى الرواية، فالكتابة الإبداعية ليست وظيفة يخصص لها وقت، ثم تجمع الموارد وفي النهاية البدء بالعمل، كتابة القصص في عرفها تجعلها خاضعة للعملية الإبداعية التي ليس لها بوصلة أو بداية ونهاية واضحتين، هي لا تكتب بتسلسل وقت تكتب عشرات النسخ المختلفة لوصف مشهد واحد، وربما يمر الأسبوع دون تحقيق تقدم في الرواية. وهناك من رفضوا فكرة طرح أفكارهم أمام العامة، وفضلوا العزلة والانتحاء بعيدا في أماكن تهيئ لهم فرصة لاصطياد الأفكار، واعتبروا أن الكتابة أمام العامة مثلها مثل التغوط أمام الناس. هكذا كشف الكتاب عن أسرار عوالم الكتابة الإبداعية، وإن تضمنت الكثير من الإرشادات للكتاب المبتدئين كي لا يقعوا في مثل هذه الملهيات. الشيء المهم أن عالم الكتابة وأسرارها يحوي الكثير من الأشياء المدهشة والمثيرة التي تؤكد أن الإبداع جنون، وممارسته لا تقل جنونا عنه، ومن ثم فقراءة مثل هذه الخفايا تكشف عن الجوانب المستترة في عملية الكتابة، وما يرافقها من مكابدات وصراعات لا تظهر بصورة مباشرة على الورق، وهو ما لا ينفصل عن العمل المنتج، ولو أتيح لنا كقراء ونقاد الاطلاع على المسودات الأولى للأعمال مقارنة بصورتها النهائية، لاستطعنا دراسة عملية الكتابة بصورة متقنة، وتتبعنا حالات الحذف والإضافة، وهو يكشف عن صراع الكاتب مع أفكاره أولا، ثم صراعه مع اللغة لاختيار الأنسب، وصولا إلى الأسلوب، لذا صدق قول البلاغيين إن الأسلوب هو الرجل.
مشاركة :