سألتني المذيعة: لماذا استأثرت التغطية الإعلامية لأحداث الإرهاب في فرنسا بنصيب الأسد، متجاوزة حادث تفجير الطائرة الروسية في سماء سيناء المصرية، وحادث تفجيرين انتحاريين في برج البراجنة بلبنان، فقلت لها: إن كلاً يأخذ بمقدار تأثيره في العلاقات الدولية، وإن ما نالته أحداث فرنسا من اهتمام إعلاميّ مردّه إلى حجم تأثير فرنسا في العلاقات الدولية. كنت أؤمن دومًا أن كلَّ أمة تساوي ما تنتجه من مفردات الحضارة الإنسانية، وأنَّ حصةَ كلِّ أمّة من التقدير، تتكافأ مع حصتها في إثراء الحضارة الإنسانية، بالمخترعات والابتكارات والاكتشافات والإبداعات، التي تسهم في تمكين البشرية من تحسين نوعية الحياة، والتغلّب على عوامل الطبيعة، وكنتُ -وما زلت- أرفضُ ما أهدره مجمع اللغة العربية من وقت، في محاولات لإنتاج مسمّيات عربية لمبتكرات، أو مخترعات غير عربية، مثل إطلاق عبارة المذياع على جهاز الراديو، والمرناة على جهاز التليفزيون، والمشهى على الكافيتيريا. لم تُكتب الحياة لأغلب ما أنتجه المجمع اللغوي من مفردات حاولت تعريب أسماء أجهزة ومعدات لم ينتجها العرب، أو حتى يشاركوا في إنتاجها، فاللغات تحيا بالاستخدام، وتموت إن هجرها الناس، والناس يؤمنون بأن الاسم الذي يعيش هو ذلك الذي وُلد مع الآلة، أو الجهاز في مسقط رأس إبداعه وإنتاجه. وكنتُ أُذكِّر زملاءَ المهنة بأن الكاميرا -وهي ربما تكون الآلة الوحيدة في عصرنا، التي ابتدعها العرب في صورتها الأولى، على يد الحسن ابن الهيثم- قد ظلّت تحملُ اسمها العربيّ الأول (قمرة)، وأن كلَّ مَن طوّروها في الغرب الصناعي المتقدِّم حافظوا على الاسم العربي، باعتبار أن مسقط رأس الفكرة كان عربيًّا. نعود إلى حوادث الإرهاب التي عصفت بباريس مطلع الأسبوع، والتي عكس الاهتمام الإعلامي بها، مدى تأثير فرنسا في العلاقات الدولية، لنطرح سؤالاً آخر يتعلّق بمدى تأثير تلك العمليات على سياسة فرنسا تجاه منطقة الشرق الأوسط، وكذلك على التزامها بما يُسمّى الشرق الأوسط الجديد. قبل هجمات باريس بأيام قال مسؤول فرنسي كبير: إن خارطة سوريا التي عرفناها منذ الحرب العالمية الثانية، لا يمكن أن تظل كما كانت، وكذلك العراق، المعنى واضح وشبه مباشر، إذ يشير التصريح الفرنسي إلى تغييرات في خارطة سوريا والعراق، حيث قامت دولة داعش، وحيث يمكن أن تقوم دولة كردية مستقلة على حساب مناطق في الدولتين (سوريا والعراق). وبعد هجمات باريس، بدا أن أولويات فرنسا، وحلفائها الغربيين قد تبدّلت، إذ عكست كلمات الرئيس الفرنسي أولاند، بشأن الرد الفرنسي على الهجمات، ميلاً لاستئصال داعش كليًّا، والإجهاز عليها بصورة تامّة، عكس منهج غربي ظل يتحدّث إلى ما قبل هجمات باريس، عن الحاجة إلى نحو ثلاثين عامًا لاستئصال داعش!!. أولويات فرنسا تغيّرت، وتغيّر معها موقفها من المساس بخرائط الإقليم، وكذلك من التحالف العسكري مع روسيا في حربهما المفتوحة ضد داعش، أمّا داعش فقد تبدّلت أولوياتها هي أيضًا، فعادت إلى تبنّي أساليب تنظيم القاعدة، بنقل الحرب إلى أرض الغرب، أو استهداف المصالح الغربية، بدلاً من التركيز على ضم المزيد من الأراضي تحت سلطة الخليفة المزعوم أبوبكر البغدادي. تغيير أولويات باريس وتكتيكات داعش، من شأنهما أن يُسرعا ببناء تحالف دولي واسع الطيف، يهدف رغم كل ما به من تناقضات، إلى الإجهاز كليًّا على داعش الفكرة، وداعش السلطة، وداعش الجغرافيا أيضًا، وفي الطريق إلى إنجاز هذا الهدف، الذي وضعته تفجيرات باريس قبل سواه من الأهداف، يستعيد الشرق الأوسط القدرة على إمكانية إجهاض خطط من أرادوا تقسيمه، وتقزيم أوطانه. moneammostafa@gmail.com
مشاركة :