العالم يفتش في حلب عن خرائطه الجديدة | عبدالمنعم مصطفى

  • 2/19/2016
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

في المسافة بين قراءة الخرائط الكبرى، وبين ملاحقة قطع فسيفساء دقيقة فوقها، يتقرَّر أحيانًا شكل العالم، وعلاقات القوى فيه، وأطوارها، وأدوارها، وحصة كل منها في الجغرافيا، وحصة كل منها في التاريخ. لكن أغلب اللاعبين غير مُصرَّح لهم بدخول قاعة الخرائط الكبرى، حيث يجري كبار العالم وحدهم، وفق حسابات القوة وموازينها، توزيع الحصص، في الثروات، وفي الأدوار، وأحيانًا في الأعمار أيضًا. على مدى الأربعمائة عام الأخيرة، كانت أوروبا هى حائك الخرائط الوحيد، وكانت تصوغ من دوقياتها، ومن ممالكها الدقيقة الصغيرة، فسيفساء تتشابك فيها المذاهب، والمصالح والكنائس أيضًا، ومن رحم حروب وصفت دائمًا بأنها «مُقدَّسة» خرجت أوروبا بعد حروب الثلاثين عامًا، بين أتباع مارتن لوثر البروتستانت، وبين الإمبراطورية الرومانية التي كانت توصف بـ»المُقدَّسة»، بنتيجة واحدة فحواها: «لا فائدة»، فالحروب التي أنهكت الجميع، حملتهم قسرًا إلى منطقة السياسة، حيث الحلول الوسط، ذهبوا جميعًا إلى ويستفاليا، وتفاوضوا على مدى عامين في مدينتين منفصلتين بمقاطعة ويستفاليا (نسبروه واونسابروك)، ثم خرجوا بصيغ عامة، صاغها إنهاك المتفاوضين، انتهت إلى وضع أسس النظام الدولي الراهن. حروب أوروبا المذهبية بين البروتستانت والكاثوليك، لم تكن سوى غطاء لطموحات ممالكها ودوقياتها، وحين وضعت حروب الثلاثين عامًا أوزارها، كان العالم قد عرف مثلًا مبدأ حق الدولة في اختيار نظامها الداخلي، وحق كل شعب في اختيار دينه أو مذهبه، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وحين وضع ملوك أوروبا آنذاك في مواجهة الاختيار بين الانتصار للكنيسة أم للإستراتيجية، اختاروا الإستراتيجية، ونحّوا الكنيسة جانبًا. أوروبا التي أنتجتها حروب الثلاثين عامًا، التي وضعت نهاية لفكرة الإمبراطورية الرومانية المُقدَّسة، فرضت نموذجها لاحقًا على العالم كله، واستمر النظام الدولي -الذي أنتجته حروبها- حاكمًا لقواعد العلاقات الدولية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حين انتقلت الراية عبر الأطلنطي إلى الولايات المتحدة، التي قادت بدورها النظام الدولي وفق ذات القواعد، مع بعض تحويرات طفيفة، فرضتها اعتبارات التطور التقني في الاتصالات والسلاح، بأكثر مما فرضتها المعتقدات الدينية أو الثقافات الإنسانية. ما يجري في إقليم الشرق الأوسط في الوقت الراهن، هو عملية إعادة هيكلة، أو صياغة نظام دولي جديد، وفق حسابات قوة جديدة، وبلاعبين جدد، كانت حسابات واشنطن تقول قبل انفجارات الشرق الأوسط، أن النظام الدولي الجديد سينطلق من الباسيفيكي، حيث الاقتصادات العملاقة على ضفّتيه (أمريكا وكندا على إحدى ضفافه، والصين واليابان وكوريا الجنوبية على الضفة الأخرى)، وكان القرار الأمريكي بنقل أدوات القوة الأمريكية من الشرق الأوسط إلى بحر الصين، مع كل ما يستدعيه ذلك من إعادة ترتيب للأولويات، تضع منطقتنا على الهامش، غير أن التطورات المصاحبة لما سُمِّي بالربيع العربي، وبخاصة المشهد في سوريا، ربما أجبرت واشنطن على تغيير خططها، أو على تأجيل بعضها على الأقل. نقطة التحول الرئيسية في لعبة إعادة هيكلة النظام الدولي، صنعها قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بالتدخُّل العسكري في سوريا، وكأن لسان حاله يقول: البداية من هنا، وليست من بحر الصين. وبينما يخوض الأوربيون والأمريكيون والروس الصراع في سوريا والشرق الأوسط، مسلَّحين بخبرات حروب الثلاثين عامًا، وبقِيَم ويستفاليا، فإن أغلب حكومات الشرق الأوسط، ما زالت تخوض الصراع، بعقل الإمبراطورية الرومانية (المُقدَّسة)، حيث لا يجوز التنازل فيما هو سماوي ومُقدَّس، ولا تجوز المساومة حول ما تحيط به هالات تقديس حتى لو كانت أنتجتها في الغالب اعتبارات السياسة. الطور الجديد، الذي دخله الصراع في سوريا، قد يشير إلى اقتراب ساعة الحقيقة، فالعالم يُفتِّش في حلب عن خرائطه الجديدة، وبينما يتعالى إيقاع طبول الحرب، فإن الحرب ذاتها تبدو-بحسابات السياسة- بعيدة نسبيًا، وان إيقاع الطبول ربما لا يتجاوز كونه موسيقى تصويرية مصاحبة لمشهد العودة إلى طاولات تفاوض، قد تُنتج ويستفاليا شرق أوسطية جديدة، تضع صراعات المذاهب والحروب المُقدَّسة في مكانها اللائق فوق رفوف التاريخ. moneammostafa@gmail.com

مشاركة :