لا شيء يثير القلق في السياسة بمقدار "الغموض"، الذي يصبح السياسي معه كمن يفتش عن قط أسود في غرفة حالكة الظلام، لكن الغموض ذاته يستثير الفضول للمعرفة، ويطرح المزيد من الأسئلة التي يفتش أصحابها عن إجابات تستشف الحقيقة، وتستجلي الصورة، وتستجمع شتاتها، لتنتهي بما يسميه العسكريون ، تقدير موقف، تنبني عليه الرؤية وتصدر بعدها القرارات. تذهلني شجاعة من تستضيفهم الفضائيات تحت لافتة" خبير استراتيجي"، جلهم يتحدثون بجرأة يحسدون عليها عن "الشرق الأوسط الجديد" وكأنهم يلمون بأطراف خارطته، وبدقائق مكوناته، وبتفاصيل عملية الانتقال اليه، وأغلبهم يمتلك تفسيرا لكل شيء، أو هكذا يظن عن نفسه، فيربط ما يدور من مشاهد في جنوب اليمن وشمال لبنان وصعيد مصر وشبه جزيرة سيناء، بما يسميه "خارطة الشرق الأوسط الجديد"، وهى خارطة "ظنية" لا يعلم بدقائقها سوى من رسموها خلف الأبواب المغلقة في "لانجلي" حيث مقر المخابرات المركزية الأمريكية، أو في واشنطن حيث البنتاجون أو البيت الأبيض. تحاليل قراء "الخارطة الظنية"، لا تختلف كثيرا عما أفسحت له بعض الفضائيات صدرها من نبوءات العرافات والعرافين، ممن راحوا يقلبون في أوراق نوسترآداموس القديمة، بحثا عن خارطة "الشرق الأوسط الجديد" وعن هوية من يعكفون على رسمها بالقلم أو بحد السونكي، لكن قليلين في عالمنا العربي من راحوا يفتشون عن الحقيقة في وثائق من دشنوا مصطلح الشرق الأوسط الجديد، وفيما أمكن تسريبه من أسرار استخباراتهم، سواء عبر "ويكليكس" أو عبر الاستخبارات المتنافسة. في منتصف التسعينيات، كتبت في هذه الصحيفة، طالبا الكشف عن ورقة مطوية يخفيها الرئيس الأمريكي -آنذاك- بيل كلينتون في جيب سترته الداخلية، كان الرجل يطوف بالمنطقة على نحو مريب في أعقاب توقيع اتفاق وادي عربة، في يوم عاصف بصحراء الاردن، عصفت فيه الرياح بأوراق الموقعين، وبستراتهم وحتى بالشعر الغجري المجنون للرئيس الوسيم كلينتون ولرئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك اسحق رابين . كانت الورقة (الافتراضية) تضم على الأرجح، تصورا أمريكيا للمنطقة بعد انجاز اتفاق سلام بين الأردن وإسرائيل، ولم يشأ الإسرائيليون وقتها أن يضيعوا لا الوقت ولا الفرصة، فانطلق فيلسوف السياسة الاسرائيلية شيمون بيريز، ليطرح افكاره بشأن مستقبل المنطقة في كتاب أسماه "الشرق الأوسط الجديد"، قبل بيريز كان يجري الترويج لما سمى بـ "الشرق الأوسط الكبير" أي ذلك الذي يشمل المنطقة من باكستان وحتى السواحل المغربية على المحيط الأطلسي. أما الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه بيريز، وأظنه كان منسجما مع ما يخفيه بيل كلينتون من تصورات في جيب سترته الداخلية، يتصور منطقة للتعاون الاقتصادي، تهيمن عليها اسرائيل، وبكل صراحة قال بيريز وقتها ان اسرائيل يجب ان تكون "عقدة مواصلات الشرق الأوسط الجديد" أي نقطة المبتدأ والمنتهى لمحطات السكك الحديدية والمطارات والموانىء في المنطقة، وزاد بيريز اثناء المؤتمر الاقتصادي الذي عقد في العاصمة الاردنية عمان وقتها، بأن اسرائيل يمكن ان تكون المركز المالي للمنطقة، تذهب اليها مدخرات دول المنطقة وودائعها، وتخرج منها قروضها واستثماراتها في باقي دول الاقليم. هكذا بدت ملامح الشرق الأوسط الجديد، في منتصف التسعينيات، لكن هذا المولود الذي مازال قيد التشكل، ظل يكتسب ملامح تتغير بحسب الطرف المهيمن على عملية إدارة مشروعه، والآن يبدو أقرب الى التصور الأمريكي منه الى التصور الإسرائيلي، وان لم يتصادم التصوران لدواعٍ منها أن رؤية كل من إسرائيل وأمريكا للمنطقة تلتقي في نقاط كثيرة، ومنها أن كلا الطرفين يعتقد أن من الأجدى تأجيل الصدام حتى ننتهي من إنجاز ما يمكن أن نصطدم حوله. في اللحظة الراهنة، ثمة نقطة اختلاف ظاهرة بين ما تريده إسرائيل، وبين ما تتصور أمريكا أنها تستطيعه، فإسرائيل تحت وطأة الخوف من الطموح النووي الإيراني، لا ترى بديلا عن تصفية المشروع النووي الإيراني برمته، سواء حدث ذلك بالدبلوماسية، وهو صعب، أو بالقوة العسكرية ، وهو باهظ التكلفة وعالي المخاطرة. مقاربة الرئيس الأمريكي أوباما مع المشروع النووي الإيراني، تتطلع- حسب ما يبدو حتى الآن- إلى ضمان ألا تتحول إيران إلى قوة نووية، لكنه لا يبدي ممانعة قوية بنفس القدر، لامتلاك ايران "قدرات نووية" أي أن تحتفظ بالقدرة على تخصيب اليورانيوم إلى معدل 20% ، مع قبولها بالخضوع لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لضمان ألا تنتقل إلى التخصيب لأغراض عسكرية بنسبة 90%. لكن هذه المقاربة لا تناسب اسرائيل التي تستشعر خطراً حقيقياً من احتفاظ طهران بـ "قدرات نووية" يمكن ان تتحول بقرار سياسي الى أسلحة نووية، تضع إسرائيل في دائرة الخطر المباشر. الشرق الأوسط الجديد بنظر بيريز لا يشتمل على إيران نووية، لكنه أيضا لا يشتمل على إسرائيل منزوعة السلاح النووي، وتلك هى المعضلة الحقيقية ، فترسانة اسرائيل النووية لم تعد عبئا أخلاقياً على واشنطن فحسب، لكنها أيضا باتت عنصر تعويق لقدرة واشنطن على بسط رؤيتها لـ "الشرق الأوسط الجديد". عموماً فإن الخارطة الجديدة للمنطقة يجري رسمها الآن تحت وطأة المخاوف الأمنية لدى البعض، أو تحت وطأة الاضطرابات الداخلية لدى البعض الآخر، ولعل الجديد والمثير في المشهد الآن، أن التحولات الدرامية بفعل بعض الشعوب، باتت عنصر تأثير ملموس أو حتى عنصر حسم، لمصير الخارطة الجديدة، فما فعله المصريون في 30 يونيو الماضي وما تلاه، قد أراق حبراً فوق خارطة الشرق الأوسط الجديد ، أفسد طبخة كلينتون- بيريز بشأنها، وان كان الطهاة لم يتخلوا عن اصرارهم على إتمام الطبخة ولو عبر مسارات أخرى، لعل من بينها مقاربة أوباما- روحاني، بعدما أفسد المصريون في 30 يونيو خطة للحرب المذهبية بدا أن الرئيس الإخواني السابق مرسي قد أطلق شرارتها الأولى قبل أسابيع فقط من سقوطه. moneammostafa@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain
مشاركة :