يمتلك الفنان التشكيلي السوري نوفل العنداري من المهارات الفنية والحس الجمالي ما يجعله قادرا على استفزاز مخيلة المتلقي عبر محاولاته الخاصة في التعامل مع الأشكال الفنية، وهي محاولات نابعة من ذات الفنان ووجهة نظره الخاصة للواقع، يدمج فيها بين الألوان والأشكال، فيتحد مع العالم في توازن دقيق يحوّل لوحاته إلى مادة فنية ثرية خاضعة للتأويل والتحليل. وأنت تجوب في عالم نوفل العنداري المولود في السويداء عام 1978، لا تنسى أن تكون مهيئا لتلقي توترات ريشته وضرباتها التي تحمل قيمتها في ذاتها لتلقي كمشة انفعالات قد تكون ضرورات زمنية تطرح في داخل العمل، وكأنها حلم يمشي إليه العنداوي كعاشق جبلي تضج شخصيته بالهواجس والأحاسيس التي تستفز المتلقي مبهجا أو حزينا وكأنه في حوار حاد مع ماء بارد يندلق عليه بسرعة رمش العين. وإذا اجتاحك المحيط بغموضه وضجيجه وأسراره لا تقل كثيرا فهناك ما يساهم في اكتشافه ومعرفته تدريجيا، فالأمر كله متوقف على مدركاتك البصرية وميلها نحو الأشياء وما تنبثق منها تلك الحساسيات الجمالية التي تزيد ضوابط التذوق لديك بعيدا عن المألوف ومؤثراته، قريبا من الإنسان ومن توسع دائرة ذاكرته، ومن ملامح خصوبة أجوائه ومعاناته الداخلية، ومما يجره إلى بنى مفتوحة غارقة في الأشياء وأشكالها، فالمخزون كبير جدير بتجربة جديدة ومثيرة، تجربة تسافر في الروح كالأطفال، كل مزاميرها تعزف حكايا الحقيقة التي تحمل موتها وصخبها في اللامرئي، تحمل رؤيتها في اللون الذي لا يمكن أن يفسر إلا بعلاقته مع الألوان الأخرى المحيطة به والمتفاعلة معه. ولا يحتاج كل هذا في بعض جوانبه إلى خواص ملازمة لكل لون تتغير بتغيير كثافته ومواقعه، أو قد يحتاج الأمر إلى ملامسات ترتبط بظواهر احتمالية ذاتية تتجاوب إلى حد كبير مع درجة الخيال وتأثيراتها، والتي قد تستجيب أو تتناقض مع المستويات الواقعة بين الشعور واللاشعور، أو بين الوعي واللاوعي تبعا للحالات المزاجية الخاصة للفنان، وما يحركها من الداخل بأقصى حرية ممكنة تلاعب الأشياء والصور والموضوعات. عالم مبني على الثنائيات وأنت تجوب في عالم العنداري لا تنسى أن تتحرر من المساحات وتفاصيلها، فكل الأمكنة تفاجئك بمؤشرات رموزها وبكثافة تراثها البصري، وببقايا مفردات حقولها وما تساقطت منها في الروح كشهقة لا حدود لها، كحدس مملوء بالتداخلات الروحية والعاطفية الممتدة في اللانهاية، يعبر كل القيود وكل المسارات بارتفاعاتها وانخفاضاتها، وكأنه يهمس لنا بما تحمله من دلالات رمزية مرتبطة بالاستمرارية والإحاطة بتلك السطوح أو بتلك الأشياء وما تبغيها من خلال العلاقات المكانية المختلفة وما تفرزه من قيم معطاءة بفعل إزاحة هنا أو هناك مع الابتعاد التدريجي عن استخدام المفردات والطرائق المألوفة في صياغاتها، ساعيا للتجريب الذي يقوم في جوهره على أساس من الخيال والمرونة، فيبدأ الانتباه بالاستثارة، وتبدأ التوقعات بالتوالد حتى تبدأ التكوينات بالحضور ضمن بوتقة جديدة. وأنت تجوب في مدينة العنداري الفنية لا يمكن أن تخرج منها خالي الوفاض، فعمق التصوير لديه يتيح لك وفي حيّز جميل أن تستخلص فصولا كاملة لسيرة لا تهادن الواقع ولا تتبوأ الأحداث السهلة، فقدرته على الإدهاش ومثيراته بإيقاعات غير منتظمة تجعله يستثير التوقعات التي تفيد في تعميق فهمه لعملية الخلق والانتباه إليها، كما تفيد في التركيز على التجربة الجمالية بوصفها استجابات سلوكية قصدية ترتبط بعمليات التوقع بمعناها الدلالي من جهة، وبالفهم المفتوح والصحيح لها من جهة ثانية. وتأخذنا الجهود الخاصة ونحن معه إلى الأعماق الشعورية للفنان لتحليلها ومعرفة مدى تطابقها مع رؤيته الحسية البصرية، فمحاولاته الخاصة في التعامل مع الشكل الفني تجتذب اهتمام المتلقي على نحو فعال، ويدعوه إلى تنشيط خياله، وشحناته التعبيرية قادرة على لجم الضجر دون أن يدع للهيبها مجالا للسيطرة على متلقيه، وما يحدث ما هو إلا مهارات حركيّة تعتمد على المحاكاة المرتبطة بالمثيرات الموجودة في ذاته ولذاته. إنها مهارات جمالية بمستويات مرتفعة ومتنوعة من طبيعتها جميعا الاستمرارية للارتقاء باللاشعور كقيمة جمالية تهتم بالعمليات المعرفية التي أهملها الكثير من الفنانين. ويتوجه العنداري عبر مراحل متتابعة بريشته نحو قطاع تجريبي في محاولة منه لتحقيق الأهداف المستمدة من وجهة نظره الخاصة حول الواقع بمكونات جمالية تناسب مشروعاته التي يشع منها الجمال، والتي تأخذ أشكالا بصرية في أبعد وأعمق وأوسع نقائها إدراكيا، وهو قطاع المقياس فيه هي تلك المتعة الخاصة التي ستجنى من عمله الفني كمحصلة جمالية، احتمالية ونسبية لتداعياته وخيالاته التي يسقطها على ألوانه، مضافة إليها خبراته الأكثر فاعلية، ومعتمدا على طبيعة المثير الجمالي ذاته في العمل الفني. العنداري يمتلك مهارات جمالية تهتم بالعمليات المعرفية التي أهملها الكثير من الفنانين العنداري يمتلك مهارات جمالية تهتم بالعمليات المعرفية التي أهملها الكثير من الفنانين ويرفع ذلك من حجم تصميم الفنان على تجسيد أشكاله بتنظيم مكاني وما يحمله من معان رمزية قد تكون أكثر أهمية من المعاني المحددة لها مسبقا. ومن خلال الحكم الجمالي وما يستخدمه من إيقاعات تختلف من لحظة إلى أخرى، يبسط الفنان تفضيلاته اللونية الخاصة على أساس الشكل أولا فيتجنب البراقة منها أملا في الوصول إلى التنبيه النشط سعيا منه نحو رفع المثيرات الجمالية لتركيباته الخاصة بمستوياتها المتنوعة وهذا ما يرفع الإحساس الشامل بالحياة في تألقها وتدفقها الدائمين. ويتعامل العنداري مع القضايا الحياتية النابضة بمفاهيم خاصة قادرة على تلمس العوالم الإنسانية وآلامها الداخلية، وتلمس تلك الآهات التي تخرج من قلب عاشق لم يهد الجدار بعد، فرؤيته تختصر بمعالجة البياض بشعور ملتهب يجعل البناء شامخا ومتميزا يعانق الحب والقلق معا برؤى تجمع بين موجة من المحاكاة بين السطوح والكتل الأخرى والتي من الممكن أن تتلقى إضاءة أقل أو أكثر تبعا للسطوح بوصفها سطوحا متحولة تتحرك من أجل أغراض قيمية. والعنداري هنا يبحث عن الجديد ضمن دوافع استكشافية تجعل من قدرته على المهارة والتفكير في مداها الأوسع، ومن قدرته على خلق توازن خاص بين أبعاده بكل دلالاتها، فالملاذ آمن له وليس فيه ما يمنعه من الاستجابة لتلك الثروة الفنية الهائلة التي بدأت تنتج في دواخله وتجسيدها في غابات سطوحه وصولا إلى الطفولة المتأخرة حيث الانتماء إلى الجمال يكون بكل بساطته وألوانه، وحيث الإحساس بالاتحاد مع العالم يكون بكل طاقته وتلقائيته. وتكاد تنطبق وجهة النظر هذه على مجمل مستلهمات العنداري ونتاجاته الجديرة بالتحليل والتأويل، والتي تعبر بحق عن تحولات نشطة وفاعلة في ذاتها أولا ومع التحديات الشكلية التي لا يمكن تجاهلها ثانيا، فبتركيزه على استراتيجيات خاصة في تنشيط الخيال يجعله بإسهاماته الخاصة يسعى لاستكشاف خصوصيته أو لنقل استكشاف حكايته التي سيرويها في ما بعد.
مشاركة :