لا يسير الفنان العراقي ماجد شاليار خلف المألوف والسائد، بل يبحث عن كل ما هو مختلف ليقدم قراءته الخاصة للواقع ولليومي المعيش. وهي قراءة تختلف في كل مرة عن السابق، إذ تتسارع وتتباطأ متأثرة بحال الفنان وبحال الواقع وبطبيعة العلاقة القائمة بينه وبين اللوحة. تعجبني طريقة تعامل الفنان العراقي ماجد شاليار (خانقين 1965) مع البياض الذي أمامه، تعجبني تلك الهدنة التي يخلقها مع نفسه أولاً، ومع تلك الفضاءات البيضاء ثانياً، فلا مخططات مسبقة، كل منهما (هو واللوحة) يرسم الآخر. تعجبني ثقته في نفسه وبالتالي ثقته في ريشته، وجرأته في التعامل مع البياض. تعجبني عفويته والسبل التي يمضي فيها دون أن يدري إلى أين، فهي التي تجره دون أن يسألها إلى أين الوجهة، يمضي معها حتى تلد اللوحة وتصرخ صرختها المعهودة. والأجمل في الوقت ذاته، الولادة المعروفة، حينها يرمي ريشته، وينتشي بوليده، كل منهما يفرح بالآخر، كل منهما ينتمي إلى الآخر، كل منهما جزء من الآخر، لا تقليد هنا، لا قوالب جاهزة، كل ما يرافقه عفويته التي ترى الأشياء كلها بأجنحة، وحبه الذي يزيد منابع الضوء تدفقاً، فيضيء الكون ويبهره. ولهذا لا بد أن تكون لحظة الولادة مبهرة أيضاً ومبشرة، فلا تغيب عنها انفعالاته ولا تفاصيل حياته، كل منهما يواكب الآخر بكل لمساته وخطوطه وأوضاع شخصيته. وشاليار من القلائل الذين يعيشون التأمل ممارسة، فلا يرمي نفسه ضمن نمطية يعرف مسبقاً أنها ستزيد الخناق عليه حتى تنهيه، يرفض المخططات والمسودات بكل أنواعها، يعيش المفاجأة بكل لحظاتها، وبكل دهشتها، لا ينظر وراءه ولا يلتفت إلى ما يشغله عن لحظاته تلك، لحظات العشق التي يعيشها مع محبوبته، مع لوحته بكل آهاتها، تمنحه نفسها بكل مفاتنها، فلا تهرب منه، وهو كالساحر يغوص في عوالمها التي تأخذه هي كيفما تشاء وإلى أينما تشاء، فهو في حالة دمج وارتباط لا فكاك منها إلى أن تنتهي سكرته ويجد نفسه في سيرتها التي هي سيرته أيضا. الفنان التشكيلي العراقي دائم البحث عن الأفضل، عن المميز، عن المختلف، وكأنه يعيد قراءة الواقع قراءة جديدة ويبدو الفنان واللوحة في حالة من النضوج الدائم، فكل منهما يختزل هواجس الآخر، ويعيش كل منهما معاناة الآخر، كل هذا يقوده إلى أكثر من تجربة في كل منها يحاول إيجاد انتماءاته، والانعتاق من كل المسلمات المسكونة بالقلق والتوتر. فهو يكرس انسجاماً عبر العاطفة المرتبطة بفعل معرفي، عبر استرخاء وراحة الذات التي تحتفظ بمبادراته بصفتها مقامات مضاءة تدعو إلى الإحساس بنشوة لا زمانية، والتي يتركها تواجه الآثار الحسية التي ربما تكون قريبة من الإحساس الذي يشعر به. يمكننا اعتبار عملية شروعه في العمل، ذلك الشروع الحاضر والمشبع بالحماس قيمة تضاف إلى رصيده، ومن المناسب أن يصب ذلك في صالحه، فهو الذي يحاول جاهداً أن يحيط بالأسئلة الجديدة المطروحة بصيغ معينة علّه يقوم بقلب الترتيبات التي تبدو محددة للوهلة الأولى، ويجب هنا التساؤل عن الفرصة السانحة له كي يبقى فضاؤه مفتوحاً أمامه، وصالحاً لاستقصاء افتراضاته من وجهة نظره، فهو من ناحية يقاد بالفعل من قبل سويات بقعه اللونية وهي تمتص الضوء كي تتحول إلى لون آخر، ببريق آخر، ومن خلال أسلوبه بقطبه الإيقاعي المتسارع حيناً، والمتباطئ في حين آخر يتم تجاوز عتبات الظلمة نحو السكينة والطمأنينة والهدوء، وهذه صفات عاطفية تشكل بعداً عاطفياً يتلاقى مع البعد المعرفي بفعل التأمل، وهنا تتحول اللحظة إلى بريق لوني آخر فيها يتكثف الصمت، لتبدأ الأحاسيس البصرية بالتسابق على محتواها لتذوقها. كل هذا يعني أنه يمكننا أن نستشف ما يعتليها من ترتيبات أساسية من الشفافية وما يقابلها من قبول التغييرات اللونية أو رفضها، كذلك بالنسبة إلى تركيباته التعبيرية التي يمكن تفسيرها كترتيبات فاعلية محسوسة، فهي تتواجد بحالة من التكافىء، وبحالة من التميّز الذي نراه في تلخيصه لآثار معناها الشعوري والعاطفي منفتحة على صيغ احتمالية لا حدود لها. بعفوية شديدة يسجل ماجد شاليار فعله الإبداعي، ولا قبول لديه بالإطارات التقليدية التي يرميها بعيداً، فحتى إطاراته التي لا بد منها في بعض الأحيان تبقى قابلة للتغيير، وهو دائم البحث عن الأفضل، عن المميز، عن المختلف، وكأنه يعيد قراءة الواقع قراءة جديدة. فتعامله اليومي مع الواقع المعاش، والذي يعطي نتائجه كتصريف أمور لا أكثر لم يجعل منه عبداً لحركاته ومفرداته. فهو الباحث أبداً عن إشارات دقيقة حتى تومض له فيمضي في أثرها وكأنه راكب موجة جديدة خالصة لذاتها، يتعاظم علوها وانخفاضها تبعاً لكل تداخل جديد يعلنه بين تقنيته والصور التي تتوالد كحواش حيناً، وحيناً آخر كعلاقات من شأنها أن تتفق مع تفاصيلها المشجعة على البحث، ذلك البحث في قيمه الجمالية والمعرفية، وفي تفاصيله التي تتتابع كلقطات لتشكل سرودا مصورة هي التي ستجل مشهده البصري بكل تقاطعاته التي تتم بفعل الزمان أو المكان. بب هذا في حد ذاته سرد آخر جميل، مشهد آخر يذكرنا بأننا في إيهام حكاية أخرى وجديدة، ومن الواضح جداً أن المشروع الذي يشتغل عليه شاليار يطلب منه المشاركة بنجاح مرموق في كل مبادرة تقربه من الصورة الحقيقية لعالمه وعالم المجتمع الذي يعيش فيه، فهو يأخذ في الاعتبار تلك الفجوات التي قد تعترضه هنا أو هناك، فعليه أن يتجاوزها ويعبر إلى الضفة التي يريدها، فالإشكاليات التي قد ترافق خطواته لا تؤثر عليه، ولا تلفت نظره، فهو على دراية بأن الصعوبات لا تهد الفنان الحقيقي، بل تقويه وتجعله أكثر حرصاً على إنجاز مشروعه الفني الجمالي، وعليه فلا تهدأ محاولاته وهو يبحث عن البدايات، عن النصوص الأولى للتنقيب فيها، وليثبت لنا بأن تلك المحاولات ما هي إلا أطروحات، العودة إليها ممكنة. وعلى هذا الأساس لا يستعير الفنان العراقي الشكل من أحد، وهذا يقتضي منه تتبع أشياء وأشياء كنوع من التضافر حتى يدخل مجالات التعبير من جذورها وهذا يؤثر في إنتاجه ويضيف إليه ويوقظ زمن البياض فيه، الزمن الفاصل بين الحواش والمتن. ماجد شاليار يملك من المشاعر والأحاسيس كمّاً يدفعه بالضرورة إلى حب عمله الإبداعي إلى حد العشق، يفرغ تلك الشحنات النقية بين ألوانه ومعزوفاتها، وبين تلك اللحظات الحساسة التي يتصيدها منها، فهو عاشق الطبيعة في المطلق وهذا ما يبرر شغفه الكبير بالانطباعية والتعبيرية على نحو خاص، فهو حين يكون هناك بين أحضانها وترافقه ريشه وألوانه ينسى نفسه، ولا يفكر مطلقاً إلا في المكان الذي فيه واللحظة التي يعيشها، وهذا أيضاً ما يبرر لنا حبه للإنسان بقدر حبه للطبيعة، كلاهما جناحاه في التحليق في عوالمه التي يخلقها هو، ويرسمها هو، عندها يشعر بأنه ولد كي يكون فناناً يعشق الحياة. ومن المعلوم أن شاليار من خريجي كلية الفنون الجميلة / قسم الفنون التشكيلية ببغداد عام 1991، وهو عضو في نقابة الفنانين التشكيليين العراقيين، وعضو في نقابة فناني كردستان، وأستاذ في معهد الفنون الجميلة في مدينة خانقين، وكما يعشق التشكيل يعشق الموسيقى ويعزف على آلة الهارمونيكا، له معارض شخصية في كل من خانقين والسليمانية وبغداد وتونس، كما له مشاركات كثيرة في المعارض الجماعية تجاوزت العشرين معرضاً.
مشاركة :