هادي ضياء الديني فنان يصوّر حكايات الإنسان والمجتمع | غريب ملا زلال | صحيفة العرب

  • 8/29/2022
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا يستطيع الإنسان تجاوز وجعه وذكرياته الحزينة بسهولة، فما بالك لو كان هذا الإنسان فنانا ينظر إلى كل الأشياء من حوله بحساسية مفرطة، فيأخذ على عاتقه عهدا بأن يخصص نتاجه الفني لخدمة الإنسان والمجتمع وينقل إلى الآخر رسائل تعبّر عن بني جلدته فينزله منزلة المقدس ويقدمه برموز ودلالات جميلة تستفز المتلقي وتدفعه إلى البحث في عمق اللوحة وخلفيات صاحبها الفكرية والأيديولوجية. هادي ضياء الديني من مواليد سنندج في محافظة كردستان إيران عام 1956، فنان غني عن التعريف، لا يحتاج أن نقدمه كثيرا فهو يقدم نفسه بقوة، ومعروف جداً كردستانيا وعربيا وإيرانيا، فهو رسّام ونحات، نحت التماثيل لعشرات الشخصيات الكردية، منها: شهرام ناظري، بابا طاهر، مير عماد خوشنويس، محمود دولت آبادي، مولانا جلال الدين بلخي الذي تعلم عنه هادي الفن، محمد رضا لطفي، وآخرون. وللفنان نصب يزيّن بعضها ساحات كردستان إيران، كنصبه الذي يرمز إلى التضحية والمقاومة وهو على ارتفاع خمسة عشر متراً والموجود في أبيدار، سنندج، وبعضها الآخر يزيّن مدن كردستان العراق كنصبه عن شيخ محمود في السليمانية، وآخر بعنوان الانتفاضة في قلعة دزة، وله تمثال عن فاجعة الأنفال، أنجزه بتكليف من حكومة إقليم كردستان العراق قبل أكثر من عشر سنوات وكان يمكن أن يتحول إلى أحد عناوين كردستان، لكنه لم ينصب حتى الآن وهو على ارتفاع ثمانية عشر متراً ويضم خمسا وعشرين هيئة وشخصية، اشتغل عليه على مدار سنة ونصف السنة حتى أتمّه. وهادي ضياء الديني موهبة فنية لا يمكن تجاهلها، وله قامته وفعله، له ريشته وإزميله، هما صوته المدوي في هذه الحياة، ويُسمع بقوة من قبل الجميع. ومنذ عام 1975 وهو يقيم معرضاً سنوياً، ومنذ فاجعة حلبجة عام 1988 وهو يرى أن من واجبه أن يقدم شيئاً في ذكراها، فاختار ذكرى الفاجعة كيوم لمعرضه السنوي يقدم فيه نتاجه الذي يحكي عنه الكثير، وله معارض كثيرة قدمها في العديد من المدن الكردستانية العراقية والإيرانية، وفي الكثير من مدن الخارطة العالمية. هادي ضياء الديني من الأسماء المهمة في المشهد التشكيلي الكردي، وإن تناولته الصحافة الكردية وأجهزتها الإعلامية بوقفات مخجلة، فهو يستحق أن يكون تحت الضوء أكثر من ذلك بكثير، وهو بحق كنز من كنوز كردستان لا يجب أن يفرط فيه، بل يجب أن يستيقظ القائمون على المؤسسات الثقافية من غفوتهم، وأن يلتفتوا إلى هذا الكنز ويضعوه في المكان الذي يليق به. ورغم أن ما قدمه الفنان حتى الآن ليس قليلاً، فإنه مازال يملك الكثير ليقدمه إلى ناسه وبلده، فهو المجبول بحبهم إلى نقي روحه، وكل ما فيه من مشاعر وأحاسيس تخرج عبر أعمال تنبض بالتراب المقدس والإنسان المقدس؛ فتدفقه لم يهدأ، بل هو كأنهار كردستان بغزارته، لا يمل من أن يسقي بإبداعه كل ساحات وحدائق ومتاحف كردستان، فهو الأصيل كأحد أحصنته التي أنتجها لتزين إحدى ساحات البلاد. وأعمال ضياء الديني هي جذوره الممتدة في الوجع الكبير، التي توصلنا مفرداتها إلى التمسك بأحلام لم نتمكن من الوصول إليها بعد، فهو ينحت في الزمن كما الزمن ينحت فيه، للتعرف على تلك التأثيرات التي تعتمد على الألم ومزاميره الغائرة في أرواحنا، ومع أنه عادة لا يعود إلى البدايات إلا أنه يبقى مشرداً بكل عزلته في أعماله التي تنطق عنه، والتي تعيد نفاذ بصيرته بمزاعمها وهي تبذل قصارى جهدها لإثبات أن الفن هو الأسبق في الحياة، في التعبير وما يعزوه من آثار تؤدي وظيفته داخل نسق ما. هادي ضياء الديني “مقتنع تماماً بأن الفن يجب أن يكون في خدمة الإنسان والمجتمع” ولهذا فجلّ أعماله النحتية منها والتصويرية تحوم حول ذلك، بل هي غارقة فيه، تحكي حكايات هذا الإنسان وهذا المجتمع، وتستهويه كثيراً حين يتوقف حيالها، يتأملها بحثاً عما خلفها من التفاصيل، يذهب معها نحو تحفيزها وشحنها بالمعاني، يساعده في ذلك مخزونه الكبير بمفرداته التي تصطحب معها مساراتها وأبعادها التاريخية. ولكي نفهم أعمال الفنان لا بدّ أن نفهم تلك الأوجاع والآلام التي رافقته منذ صغره ومازالت توخز روحه، وجميعها أوجاع وآلام جمعية تمتد من داخل النسق الغائب إلى داخل النسق الحاضر، وذلك بكل ما يترتب على قلبه من تحمل كل ذلك وما يلائمه من ابتكار مفردات تلاعب أحواله في كل الأحوال. هي مفردات محرجة تعمل على إبراز ما بعد الألم كتمرين غير إرادي وفي منتهى اللاجدوى، وثمة من يلاحظ أن نتاجه ما هو إلا محاكاة لتلك الآلام بكل درجاتها، ما هو إلا صياغات موازية لتلك المحاكاة برهافة جمالية لافتة، وبرؤى تسعى إلى جر كل تأثير إنساني معها ومع أشيائها، لتتحول إلى منابع للاستلهام منها واقتباس مشاهداته سعياً إلى تغلغل أكثر عمقاً في العوالم، في كل مفصل من مفاصلها، مانحاً إياها طاقة إبداعية إلى درجة أنها باتت بمقدورها أن تعيد صياغة الحكاية بكاملها. والفنان بأسلوبه يمنح تلك الصياغات كثافة تعبيرية تساعده في التفاعل الكبير مع متلقيها، وبأمانة ملزمة يعبر ضياء الديني عن الحالة الشعورية الخاصة التي تنتابه وهو ينجز هذه الأعمال. حين يقول هادي ضياء الديني “الفنان ليس مراسلاً ينقل الأخبار والأحداث، بل هو متأثر بخصائص عصره، ويتأثر بدون قرار أو تخطيط بأحداث وأوضاع مجتمعه، نعم مرّت بنا فواجع كثيرة، وقد اتخذت من حلبجة رمزاً يمثلنا ويمثل جميع الظلم الذي لقيناه”، ندرك ما يحكم رؤية الفنان وما يتجاذبه خفية، فهو لا ينفي حضور المجتمع وأبنائه، بكل ما يعيشون ويعانون، ويدفع بهم إلى ما يسند مشروعه كرموز لا تخذله في النطق عنه، أو في طريقته في نهوضها وما تومئ به، فالمكونات البانية لجسد نصه مهما كانت فظيعة في لحظة تشابكها، يحكمها قانون مركزي لا يتخلى عن منجزاته مهما اتكأ على استعارات تدل على الحياة وأناشيدها الحزينة، وبذلك فهو يبني نصه بزمنه الخاص ويخبر عن ذلك الزمن بطريقته الخاصة في التشكل، فهو يتمسك بلحظات محدودة من الزمن، ويلحفها بألوان الرمز الشخصي، محملا إياها دلالات ترتقي في لاشعوره حتى تتسامى تماماً نحو الخلود في المتخيل البشري. هكذا يقول النص، نصه الفني، فيوحي بالوجع والحزن والتعب والضنى وما يحمله ذلك من دلالات رمزية مرتبطة بالحياة والموت، محققاً بذلك الرغبة المغروسة في اللاشعور والتي لا يمكن أن يلغيها، فهي تنقاد للريشة والإزميل بما يفي بحاجاته، وبما سيعلن عنه حين تتماهى المسافات وهي تختزل بين أبعاده.

مشاركة :