يعتبر الوجدان الإنساني إحدى الركازات التي ينطلق منها السلوك الإنساني بصورة مباشرة وغير مباشرة، هو يشكل «ذاكرة أساسية»، في اللاوعي الإنساني المسؤول عن شحذ التصرفات والأفكار، وبناء الثقافة، وبالتالي ولادة المجتمعات ككل. وبالنظر للوجدان الجمعي، الذي أفرزته الخبرات الذهنية، والمكتسبات الفردية زاخرة التنوع، وموازاتها بكم التحديات الفكرية التي لا يزال الإنسان يواجهها «أباً عن جد»، فإن ذلك يسوقنا بشكل حتمي للخروج من عباءة «تقديس العقل»، وصولاً لمنهجية تفكيك وتحليل مواده «الخام»، وبخاصة أن الكيان البشري في ذاته، يرنو متقدماً أو متخلفاً انطلاقاً من «حقيبته الذهنية»، التي تحمل بين جنباتها الكثير العقلي البعيد عن العقلانية في ذات الوقت. ولتوضيح ذلك أكثر، نعمد إلى بنات العقل من الأفكار التي ساقت لفلسفات ناضجة، لا تكتفي باحترام الفكرة لصيتها السامي، بل تحاول أن تثبت أحقية الفكرة بالاحترام، أو النقد الواعي، من خلال الإغراق في التحديق بها، فـ«إذا لزم التفلسف وجب أن نتفلسف، وإذا لم يلزم التفلسف وجب أيضاً أن نتفلسف حتى نثبت عدم لزوم التفلسف»، كما يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي يثبت ذلك في نهج حياته المسخر لإشباع ذاته الفلسفية، وفطرته المبنية على طرح الأسئلة، لتجده مؤلفاً في علم الأحياء، وعلم الحيوان، والفيزياء، والميتافيزيقيا (ما فوق الطبيعة)، والموسيقى، والشعر، والمسرح، والمنطق، والبلاغة، والسياسة، والحكومة، والأخلاقيات. وعلى المستوى الإجرائي، الذي يقع في الإطار ذاته، يمكن تحديد الموقع الحقيقي للعقل الإنساني بشكل عام، في «برزخ» تكويني، يتماهى وسيمفونية الكون، إذ هو قابع بين النزعة العقلية «الفطرية» المبنية على استدامة التطوير والتطور، وبين النزعة العقلية «التراثية»، التي مهما حاولت أن تخلع ثوبها القديم، تبقى بجزء كبير منها حبيسة القديم المتراكم، وولادة جديدة للنسخة، وليست للحداثة، وفي ذلك نتساءل عن إمكانية وجود واقع إنساني خال من عوامل الاعتماد على القديم، والتشبث بقضبان أضرحة مجهولة المعالم، وانطلاقه نحو تأملات نقية لا تختلط معها ضوضاء، ولا يقحم في جسدها «ثوابت غير ثابتة»، فما هو بعيد عن الهضم العقلي والاستيعاب الفكري، والموائمة الحقيقة، سيكون إنذاراً لتكوين تخمة ثقافية مفرغة، وتكوين عقلي مليء بالتقرحات! الحديث هنا تداخل بين الوجدان والتراث، لما لكليهما من ترابط لا يمكن فك وثاقه، ومن تدافع وتصارع في الحصول على سلطة إنبات المجتمعات البشرية، والتحكم بمسارها، وتغييره من خلال خيوط التراث، التي تهيج الوجدان وتسوقه. ومن هنا يمكن القول بأن الأحلام الكبيرة للأمم، والآمال الطويلة (حتى تمتد حبالها بين جيل وجيل)، من تحقيق العيش المشترك، وترسيخ القيم الإنسانية الأخلاقية الأولى، وصون المساحة الفكرية الأصيلة، لا يكون دون تحوير يصل حد التحويل في مسرب العقل، وتنمية مهاراته في التمييز بين الغث والسمين، والتركيز على التجديد في طرق تفكير لا تعني البتة سلخ الثقافة، أو التخلي عن الهوية، بل هي الاستنارة، واستنشاق الهواء العليل الذي يحمل معه منهجية سليمة، ويركز على «الوسائل»، وطرق التفكير. الاتجاه نحو التغيير والتجديد الفاعل والإيجابي في المجتمعات الإنسانية، لن يكون محفوفاً بالترحيب والتصفيق، وبخاصة من جماعات «الاستماتة»، على الجمود والتقليد، ولكنه بات أكثر قرباً للنفس البشرية التي علمتها الحياة دروساً قاسية ابتداءاً من قراءة تاريخها، مروراً بظروفها وأزماتها، ووصلاً لمأمولها المستقبلي، الذي يسمح لها بتشكيل الأيدولوجيات اليانعة، وإثمار غراسها ذي العلاقة الديالكتيكية مع الأهداف التنموية العالمية، التي تجمع بين خيوط الفن والجمال والإبداع والنجاح، والعلو عن الغلو. أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
مشاركة :