في منتصف التسعينات كنا طلبة دراسات عليا نتصارع على من يستحوذ على أسرع كمبيوتر. تلك مرحلة انتقالية في عصر المعالجات. الكمبيوترات ما كانت بطيئة فتفقدك الأمل، ولا سريعة لتقتل الملل. أجهزة أبل كانت للتطبيقات المتعلقة بالنشر، وأجهزة ويندوز/بي سي للتو دخلت عالم معالجات البنتيوم، وأجهزة صن ووركستيشنز متخصصة بالهندسة. بعض الباحثين المحظوظين أقنعوا مشرفيهم بشراء كمبيوترات سيليكون غرافيكس التي بنيت لمعالجة أفلام الكارتون (تذكرون فيلم "حكاية لعبة"؟)، لكنها فعّالة بنفس القدر في معالجة المشاكل الهندسية المعقدة. شركة فوجي تبرعت للجامعة بسوبر كمبيوتر لدعم البحوث واستبدال سوبر كمبيوتر عجوز من طراز “كراي-2”. سرعة الكمبيوتر تحدد سرعة الحصول على نتيجة. كنت أترك الحسابات التي تستنزف طاقة الكمبيوتر وتحتاج وقتا إلى عطلة نهاية الأسبوع. انتبهت إلى أن كثيرا من الأجهزة في القسم لا تقوم بالكثير، فصرت أتسلل إليها من جهازي وأترك الحسابات تتم عليها على مدى يومين. بعض الزملاء ينتبه ويأتي ليعاتبني وأرد بأن كمبيوتره أسرع كثيرا، والآخر تمر عليه المسألة. كل هذا الآن في حساب التاريخ. هاتف أيفون الأخير فيه معالج يجعل أجهزة سوبر كمبيوتر التسعينات "تبكي". لكن سرعة المعالجات وسرعة الكمبيوترات لا تزالان مسألة مهمة، وربما حاسمة في عالم اليوم. تدرجت سرعة المعالجات من كافية لمعالجة مهام حسابية لرحلات الفضاء وتصميم الطائرات والتأكد من أن المفاعلات النووية تعمل بسلام في الستينات والسبعينات، إلى معالجة تفاعل بصري بين المستخدم والماوس والكمبيوتر بعد ولادة برامج أبل وويندوز في الثمانينات، إلى تشغيل برامج الصور والفيديو والألعاب في التسعينات، وصولا إلى عصر التطبيقات في الهواتف المحمولة بعد الألفية. ثم ولد العصر الصناعي الأخير (غير متأكد هل يسمى الثورة الصناعية الرابعة أم الخامسة)، مع ولادة تطبيقات الذكاء الاصطناعي. "هي سيري.. اتصل بالسائق على واتساب". يتجاوب برنامج الذكاء الاصطناعي سيري في هاتف أيفون مع طلب صديقي الاتصال بالسائق من خلال تطبيق معيّن. صديقي بلا سكرتيرة منذ سنوات. سيري سكرتيرته. أكتب له، فيرد كلاما مكتوبا أيضا، لكنه من صوته إلى نص عربي. سيري يفهم العربية. سرعة الكمبيوترات والشبكات ومرونتها والتأقلم الشخصي معها قاد إلى ولادة عالم العيش الافتراضي (ميتافيرس). كثيرون يستمتعون اليوم بهذه التجربة ويتصفحون أبعادها وإمكانياتها. يتجولون في عوالم من صنعهم وصنع غيرهم. عوالم تبدو مثالية، لكنها مثل أي شيء آخر، مليئة بالمحاذير. بالأمس أعلنت ميتا/فيسبوك عن بنائها لسوبر كمبيوتر جديد بمواصفات تجعله الأسرع على الإطلاق. إعلان الشركة كان واضحا: “الكمبيوتر الخارق سيفيد الشركة في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال بناء نماذج بوسعها التعلم من تريليونات الأمثلة والتعامل مع مئات اللغات وتحليل النصوص والصور ومقاطع الفيديو لتحديد ما إذا كان محتوى ما مؤذيا”. وأضافت: “لن يساعد ذلك فقط على تأمين مستخدمي خدماتنا اليوم فحسب، بل في المستقبل أيضا، لأننا نبني من أجل العالم الافتراضي الكامل (ميتافيرس)”. نبشركم: ميتا/فيسبوك بنت أسرع “شرطي” في العالم حتى قبل اكتمال بناء المدينة التي تقام في ميتافيرس. تجولوا في العالم الافتراضي، فالأمن مكفول. “هي سيري.. جاءك من ينافسك”. يرد بذكاء، أو بلا مبالاة: “لست متأكدا مما تعنيه”.
مشاركة :