'المدينة الشفافة' تعكس الفجوة بين وجهيَّ المجتمع الانغولي

  • 4/29/2023
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تشكل رواية "المدينة الشفافة" للكاتب الانغولي نيدالوي ألميدا الذي يكتب تحت المستعار "أوندجاكي" صورة حية لمجتمع لواندا العاصمة ما بعد الحرب، التي أصبحت وجهان لعملة واحدة: أحدهما يمثل تناقضات نظامها الديمقراطي، وأحلامها الوردية بالنهضة وآمالها الزائفة في الاستثمار في الكثير من الأعمال التجارية الكبيرة، مثل استخراج البترول وخصخصة المياه، وحيث فساد المسؤولين في السلطة. في حين يتمثل الوجه الآخر في سكان إحدى البنايات الشهيرة هناك، حيث تعيش مجموعة من الأسر، لكل منها حكايتها الخاصة وآمالها الكبيرة، تجتمع كلها تحت هدف مشترك وحيد وهو أن يشعروا بإنسانيتهم وأنهم أبناء هذا البلد بحق وسط كل الانحلال والفوضى التي يعيشونها. تتخللهم مجموعة من الأنشطة واللقاءات والحوارات الفكاهية والغنائية أحيانًا، والساخرة والحزينة أحيانًا أخرى. كل هذا في إطار من الواقعية السحرية، يمتزج فيها الخيال بالواقع لتعكس الفجوة الكبيرة بين وجهيَّ المجتمع الانغولي وحال العاصمة المتدهورة والحديثة في آن واحد. بناء الشخصيات في الرواية التي ترجمها د.جمال خليفة وصدرت عن دار العربي يساعد في التأكيد على نقد أوندجاكي الاجتماعي للمجتمع الانغولي من خلال التعبير عن الاختلافات بين الطبقات الاجتماعية، كما تسليط الضوء على المشاكل التي تعاني منها الطبقة الدنيا وتعرض النتائج المحتملة للظلم الاجتماعي في ظل تراجع إمكانيات تحسين الوضع. المشهد الأول في الرواية يظهر العديد من سكان مبنى "مايانغا"، (في ظروف مروعة) مذعورين من الحريق الذي يسيطر على كل شيء. هذا الحريق الذي يظل عنصرا مسيطرا حتى النهاية. لأنه بعد هذا المشهد الأولي نبدأ في التعرف على الشخصيات التي بنت تلك المدينة "لواندا"، وخاصة سكان المبنى، بحيث يكون سبب الحريق في الخلفية وكل فصل يجلب معلومات جديدة حول تلك الأحياء الفقيرة، وعدد لا يحصى من سكانها - متساوٍ ومختلف تمامًا، بما في ذلك بطل الرواية "أودوناتو"، الذي بدأ في اكتساب حالة جسدية مختلفة بعد اتخاذ قرارات معينة في مواجهة الظلم الاجتماعي الذي يضعه أمام عالم يبدو له بعيد المنال وغير قابل للتغيير بينما هو محاصر في مبنى مجهول، ليشكل الصورة الملموسة لدورة البؤس التي لا مفر منها داخل المجتمع الطبقي. من خلال بناء سردي تم تكوينه مكانيًا داخل مبنى "مايانغا" المكون من سبعة طوابق، ينظمالروائي مجموعة واسعة من الشخصيات التي تصور الأشخاص "غير المرئيين" في لواندا ما بعد الاستقلال، ساردا معاناتهم وصعوباتهم وآلامهم، نضالهم اليومي حيث يعيشون في ظل ظروف محفوفة بالمخاطر، هؤلاء الأشخاص الذين أصبحوا يتسمون بالشفافية تدريجياً داخل مجتمع يسود فيه عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. في لواندا، تجري أعمال التنقيب بحثًا عن النفط، الأمر الذي لا يريح سكان المدينة فحسب، بل سيلحق أضرارًا جسيمة بالمدينة ككل. تتوج الحفريات بحرق لواندا بأكملها حيث تحول شرارة طائشة النفط المدفون تحت المدينة إلى عاصفة نارية. يطفو "أودوناتو" فوق ألسنة اللهب حتى أصبح شفافًا تمامًا بحلول نهاية الرواية، بعيدًا عن النار التي اجتاحت منزله السابق. في هذا المشهد الأخير، تعتبر الرمزية الواقعية السحرية مهمة جدًا. على الرغم من التحذيرات العديدة حول مخاطر مشروع التنقيب عن النفط، فإن السياسيين الرأسماليين والشركات القوية المتعطشة للمال ـ ولا شيء آخر ـ دفعوا للتنقيب عن النفط، مما تسبب في تحول لواندا إلى جحيم. نتيجة لذلك، تستخدم هذه الرواية عناصر واقعية سحرية كنقد للاستعمار والرأسمالية والجوانب المدمرة والضارة للسياسيين الفاسدين. ما يساهم في جمال الرواية بالإضافة إلى الشخصيات والقصة نفسها، هو الشكل الذي يستخدمه أوندجاكي في نصوصه، حيث توجد علاقة بين القصة المحكية ولغة النص. على سبيل المثال: عندما يكون السرد عن سكان أنغولا، يكتسب النثر الشعري مكانة بارزة، ويصبح أجمل؛ وعندما يحين وقت التعرف على الشخصيات السياسية - المفتشون الفاسدون والمستشارون غير النزيهين وما شابه - يصبح النص أكثر جفافاً وقذارة ويكشف عن أوصاف خداع الشخصيات. مقتطف من الرواية - ستقول لي ما لون تلك النار.. تحدث الرجل الأعمى إلى يد الصبي التي كانت تمسك بذراعه.. كان الاثنان يخشيان البقاء في مكانهما؛ حتى لا تلتهمهما ألسنة النار الهائلة التي تخرج من الأرض باتجاه السماء في مدينة لواندا. - لو كنت أعرف كيف أفسر لون النار، أيها العجوز، لأصبحتُ شاعرًا أنظم القصائد. بصوت منوم، تابع بائع الأصداف درجة الحرارة وأرشد الرجل الأعمى بالطرق الأكثر أمانًا؛ حيث كانت المياه المتدفقة من المواسير المكسورة ترسم طريقًا لمن يتجرأ على السير وسط نيران الغابة التي تؤججها الرياح. - أطلب منك ذلك، حيث إن لك عينين تريان.. أما أنا فأشعر بالنيران من خلال جسدي، لكنني أود أن أتخيل لونها. بدا الأعمى متوسلًا بصوت اعتاد إصدار الأوامر أكثر من المداعبة.. أحس بائع الأصداف أنه من غير اللائق عدم الرد على ذلك السؤال المحدد الذي يطلب فيه، بصوت رقيق، مجرد معلومة عن الألوان. أمر صعب ويكاد يكون مستحيلًا. استدعى الصبي من داخله بعض الدموع التي حملته إلى فترة الطفولة، لأن تلك الفترة.. تلك المملكة الخالية من الأفكار، يمكن أن تولد فيها إجابة مزهرة، حيوية، وصادقة لما يراه. - لا تدعني أموت قبل أن أعرف لون ذلك الضوء الساخن. كانت النيران تتأجج بقوة؛ حتى أن الأعمى شعر بها، واستحضر الاصفرار من الذاكرة؛ في السمك المشوي مع الفول بزيت النخيل، وشمس الشاطئ الحامية وقت الظهيرة، أو اليوم الذي حرمه فيه حامض البطارية من قدرته على رؤية العالم. - أيها العجوز، إنني في انتظار صوت الطفولة؛ لكي أعطيك الإجابة. إذا نظرنا إلى الليل من قريب أو بعيد، سنجده عبارة عن ضفيرة شديدة السواد، حيوان ليلي يقطر الطين من جسده بأكمله.. النجوم تتلألأ خجولة في السماء، نسائم بحرية هادئة، والأصداف على الرمال تتفتح في حرارة الجو الزائدة، وأجساد الناس تحترق لا إراديًّا، والمدينة ناعسة، تبكي دون أن يعانقها القمر. ارتجفت شفتا الأعمى، وكشفت عن ابتسامة خفيفة. - لا تتأخر يا صغيري، فإن حياتنا تكاد تحترق. السحب بعيدة، والشمس غائبة، والأمهات ينادين أبناءهن، والأبناء عميان لا يرون ضوء الحريق بالمدينة التي تتصبب عرقًا تحت العباءة الحمراء، وتستعد لاستقبال ليلة حالكة السواد؛ لا تتأتى إلا بسبب النار. تمتد ألسنة النيران ولهبها كمسير حيوان متعب، ومستدير الجسد، وحاسم، يهرب من الصياد، برغبة شديدة في الهرب بعيدًا؛ تريد أن تحرق أكثر، وتسبب حرائق أكثر، وعندما تستنفد مجهودها.. تسعى لحرق الأجساد التي تفقد الحركة الإنسانية، والتنفس المنتظم، والأيدي التي كانت تداعب الشعر والرأس في بهجة بالمدينة، حيث اكتُشف الحب على مدى قرون، وسط ضباب من الوحشية. تسعى لكي تسكن قلبًا أو قلوبًا أكثر. - أيها العجوز، ماذا كان السؤال بالتحديد؟ المدينة دامية.. من قاعها إلى قمة مبانيها.. أُجبرت على الانحناء نحو الموت، والسهام التي تشقها.. لم تكن سهامًا جافة، بل سهامًا ملتهبة.. كان جسدها يتلقاها صارخًا، كقدر محتوم. كرر العجوز كلماته اليائسة: - أخبرني فقط، ما لون تلك النار؟ *** سمع "أودوناتو" صوت النار. رآها تنمو بين الأشجار والمنازل، وتذَكَّر ألعاب الطفولة، حيث كانت النار تشتعل في خطوط جميلة من البارود المسروق من محل زوج أمه.. رسومات لمتاهة على الأرض بكميات قليلة، ثم عود ثقاب يشعل النار في اللعبة الخطيرة. وذات يوم، بدافع من الفضول والاندفاع، قرر أن يجرب اللعبة في خط صغير مرسوم على كف يده اليسرى.. لم يتردد، وأشعل النار في جلد يده.. وراح يتألم. تركت علامة في يده، ظل يلمسها بيده كلما اشتعلت النيران الكثيفة في المدينة، وراحت تتراقص بلونها الأصفر، ويتردد صداها في السماء. النار تتأجج. لم يعد لدى "أودوناتو" قوة ليرسم أقل علامة للدهشة على شفتيه، ولا حتى مجرد ابتسامة عادية.. وصلت الحرارة إلى روحه، واحترقت عيناه من الداخل. لم يعد للبكاء علاقة بالدموع، بل كان عبارة عن تحول في حركات داخلية؛ فللنفس جدران.. عبارة عن نسيج ذي مسام يمكن للأصوات والذكريات أن تغيرها. - "شيليسبابا". حاول أن ينظر إلى يديه، لكنه لم يتمكن من رؤيتهما. - أين أنت يا حبيبي؟ في الطابق الأول من المبنى، كان جسد "شيليسبابا" مغمورًا بالماء؛ حتى تحتمي من النار.. ظلت تتنفس بصعوبة، وتسعل ببطء؛ كأنها لا تريد أن تحدث صخبًا. لفت حول يدها حبلًا صغيرًا من نبات "السيزال"، مثل الذي يربطه زوجها حول كاحله الأيسر. تسبب عرق "شيليسبابا" وحركاتها في تفتت الحبل إلى نسائل مبلولة سرعان ما سقطت على قدميها وغطتها. نظر الآخرون في اتجاهها، مهتدين بالأصوات التي سمعوها وبصورة شعرها المتموج. بالخارج، أصوات بشرية عالية. تشبثت النساء بأيدي بعضهن بعضًا، في إشارة رقيقة، تكاد تكون خفية؛ لكي يتشاركن شكوكهن أكثر مما يتشاركن المشاعر. شعرت "ماريا القوية" بالحاجة إلى استدعاء قوى أخرى للتخفيف من دموع رفيقتها. على صفحة وجه "شيليسبابا"، انسابت الدموع في خطوط منتظمة.. حاولت "ماريا القوية" النظر إلى وجهها، واستشراف ملامحها.. منحنياتها المغطاة بالعرق، شعرت بحزنها المنطلق من زفراتها، أرادت أن تمسك بمعصمها، لكن نبضات قلب "شيليسبابا" - التي تفكر في زوجها المنعزل في أعلى المبنى - كانت عبارة عن همهمة صامتة في عروقها. - "ماريا"، أريد أن أرى زوجي للمرة الأخيرة.. لأبوح له بأشياء يسكت عنها الإنسان طوال حياته. شدت "ماريا القوية" على يد "شيليسبابا" لتهدِّئ من روعها.. تركت "شيليسبابا" نفسها تنزلق، مستندة إلى الجدار؛ بملابسها، وحذائها، وشعرها، وروحها. - اهدئي يا رفيقتي، النار كالرياح.. تدوي عاليًا، لكن صوتها رقيق.

مشاركة :