لعله من الجميل العلم أن العرب القدماء كانوا يسمون «الميكانيك» علم الحيل، باعتبار أن الإنسان يحتال لمعاشه بما يسهله من تطويع لمواد الطبيعة، فيجعله قادراً على إنجاز المهام الصعبة بمجهود قليل. ولست بصدد - ولا أظنني بقادر- على تحديد الفرق بين مفهوم القدماء للميكانيك الذي جعلهم يعدونه من «الحيل»، والمحدثين الذين جعلوا له كياناً مستقلاً من الوجود يضاهي وجود الإنسان، بناءً على أن الميكانيك يعتمد في عمله على الحركة بلا مشاعر، فهي متصلة بالعمل العضلي الآلي في المقام الأول، وهو ما يجعله مرتبطاً بالآلة المقابلة للإنسان. لكني سأتحدث عن موضوع آخر له صلة بهذه المقدمة من حيث اختلاف المفهوم بناءً على اختلاف التسمية، وهو ما يُسمى بـ»الدعايات» أو «الإعلانات»، ويُسمى بالإنجليزية بـAdvrtisement واختصاراً بـAd. يسمي المغاربة الدعاية أو الإعلان بـ»الإشهار»، وهو يحمل بعداً أكثر إيجابية (على أقل تقدير عندي أنا) من تسميته بدعاية أو إعلان، غير أنه من الممكن أن يُقال: إن المفهوم أو المسمى واحد، ولذا فإن اختلاف التسمية لا يعني شيئاً، إلا أنه من خلال الاختلاف بالتسمية القائمة على اختلاف زاوية النظر إلى المسمى، والتي تجعله مختلفاً من حيث المفهوم كما في الفرق بين (علم الحيل)، و(الميكانيك)، إذ تصبح التسمية ليست مجرد تسمية وإنما تنطلق من زاوية النظر إلى العلم، وهو ما ينعكس على وظيفته، والحدود التي يعمل بها بعد ذلك، وقد تتغير. ولا يرد على ذلك أن الوظيفة أو الحدود ليست ذات أهمية بالنسبة للعلم لأنها لا تتصل بقواعده، ولا أسسه، لأنها (الوظيفة والحدود) إذا تغيرت فإن هذا يعني تطور العلم نفسه، واختلافه عمَّا كان عليه من قبل، وهو ما يعني أن الوظيفة وحدود العلم من مفهوم العلم نفسه. وهذا يدل بدوره على أن التسمية ليست مجرد تسمية، ومع هذا فإنني لن أفيض في الحديث عن الفرق بين (الإعلان)، و(الإشهار)، ولن أتحدث عن (الإشهار)، وإنما سأقصر حديثي عن (الإعلان). يمكن تعريف الإعلان أو توصيفه بأنه مادة اتصالية، تعتمد على اللغة في تكوينها وقد تعتمد على الصورة الضوئية أيضاً، تظهر صورة المراد الإعلان عنه في حالة من الحالات. (سأقصر الحديث على الإعلان عن المنتجات والبضائع دون الأشخاص والبشر). يرد حديث عن هذه المادة المنتجة، قد تكون وصفاً له، أو خبراً عنه أو حديثاً عن مكوناته، بما يعطي انطباعاً إيجابياً حيال هذا المنتج، وقد تعزّز هذه اللغة بصورة من صور المنتج تعتمد وسائل جذب المتلقين. الأمثلة كثيرة، فالنصوص الدعائية في كل مكان، لكن من المهم أن نضرب مثلاً على ذلك حتى يكون الحديث محدداً، حتى ولو كان هذا المثل مصنوعاً، ولنفترض أننا نتحدث الآن عن منتج الفول السوداني أو ربما زبدة الفول السوداني المحبوبة لدى الأطفال. ?سنجد أن المحتوى الذي يتضمنه معلومات عن زبدة الفول من مثل لونه، مقدار لزوجته، المكونات التي احتوته، وربما مقدار محبة الأطفال له في الصباح أو اصطحابه معهم إلى المدرسة، أو المنشأ الذي صنع فيه، والخبرة الطويلة التي يتميز بها هذا المنشأ في صنع هذا النوع من المنتج. المهم في هذه المعلومات، أنها معلومات ليست ذات قيمة كبيرة أو خاصة بحيث يمكن أن تمثل شيئاً حقيقياً يجذب المستعملين، ولكنها تقدم بصورة تبعث الفضول والقيمة للمنتج بصحبة صورة ضوئية معينة تجعل المعنى يتعمق في نفس المتلقي، ولا أحد يسأل إذا ما كنت هذه المعلومات صحيحة أم خاطئة أو بالأحرى يمكن القول إن هذه المعلومات من البداهة وانعدام القيمة لدرجة أن لا أحد يسأل عن صحة المعلومات، وإذا ما سأل فإن الجواب لن يكون ذا قيمة حقيقية بالنسبة للمنتج، وذلك أنها في الغالب -كما ذكرت- بديهية، أو تتوافر في جميع المنتجات التي من نوع هذا المنتج، ولذا فإن استعراضها هنا وذكرها هو نوع من التكرار، الذي لا يقدم شيئاً. هناك دعوى، أن تكون هذه المكونات المذكورة والتي يبحث عنها العملاء عادة هي في هذا المنتج أظهر من سواه من المنتجات التي تشبهه أو تماثله، وهنا يقوم ما يسميه المغاربة بـ»الحجاج «، ويطلقون عليه حجاج الخطاب الإشهاري. لن أتحدث هنا عن «حجاج الخطاب الإشهاري» كما يتحدث عنه المغاربيون، ولا بوصفه خطاباً، لأنه هذا يعطيه مساحة خارج المجال الذي سأتحدث عنه فيها، ويمنحه قدراً من الأهمية بوصفه خطاباً يتحمل مسئوليات فكرية ومعرفية. قد يكون بحث المغاربة في حجاج الإشهار-كما يقولون- بحثاً عن المكونات الإقناعية في خطاب يحمل القيمة صفر -على طريقة بارت- بالنسبة للمعرفة أو الفكر أو الأيديولوجيا ومع ذلك يستطيع أن يحرك رغبات المتلقي، ويدفعه لدفع مال لاشتراء سلعة وهجر أخرى، وهو أدق مقياس للوحدة الصغرى للاستجابة، لكنني لن أنظر إلى الموضوع من هذه الزاوية وإنما من زاوية أخرى في المقال القادم.
مشاركة :