جاء في شرح ديوان المتنبي للواحدي، ما نصه عن كتاب «الفسر» لأبي الفتح ابن جني، «غير أنه إذا تكلم في المعاني تبلّد حماره، ولج به عثاره، ولقد استهدف في كتاب الفسر غرضاً للمطاعن، ونهزة للغامز والطاعن». وكتاب «الفسر» شرح ديوان المتنبي لابن جني، أول ما أُلف عن شعر المتنبي. ألفه عالم لغوي كبير نابه، في زمن المتنبي، وكان صديقاً له، وقد عرض عليه شعره، وآراءه، وحاوره في لغته، وأسلوبه.. ومن هنا فقد كان مصدراً أصيلاً لكثير من المعلومات عن المتنبي، وعن شعره بالإضافة إلى أنه فتح باب القول فيه، ومهد الطريق لقرائه من بعده، واستطاع أن يضع رؤيته في كل بيت من أبياته. وهذه المقولة التي يقولها الواحدي عن شرح ابن جني يظهر أنها تصور الحال التي كانت سائدة في عصره، فالواحدي قد توفي سنة 468هـ، وقد ظهر قبل شرحه كثير من الأعمال حول شعر أبي الطيب، كانت تخالف أبا الفتح رأيه في معاني المتنبي.. والمشاهد للأعمال المتوفرة التي كتبت بعد «الفسر»، يجد مصداق حديث الواحدي، فابن فورجة ألّف كتابا سماه «الفتح على أبي الفتح، وعدّد فيه كثيراً من معايب الشرح، وكذلك ما كتبه أبو العلاء المعري عن شعر المتنبي كان مجالاً للرد على ابن جني، ومثل أولئك الواحدي، والتبريزي خصّ بكتاب خاص سماه «قشر الفسر»، وابن معقل أفرد له مجلداً في مآخذه على شراح المتنبي. وهنا أصل إلى القضية المهمة التي تستحق الوقوف، وهي أن «ابن معقل» قد ألّف كتاباً في «المآخذ على شراح ديوان المتنبي»، وتناول فيه شرح ابن جني، والواحدي، والتبريزي، والمعري، والكندي، وهو ما يعني أن هذه الشروح جميعاً لم تسلم من الملاحظات، والمآخذ بالرغم من أنها جميعاً قد جاءت بعد شرح ابن جني. فمخالفة آراء أبي الفتح في شرحه للمتنبي لم تكن خاصة به، بل إن الشراح الذين جاءوا من بعده، قد أصابهم ما أصابه، ووقف اللاحقون لهم منهم موقفاً كموقفهم من أبي الفتح، وهذا يعني أن هذه المآخذ التي أخذت عليه في الحقيقة ليست أمراً غريباً، ولا تدل على ضعف الشرح، أو عدم معرفة في الشعر، وإنما لأن هذا طبيعة العمل العلمي، يختلف الناس معه، وحوله، فيقبلهم بعضهم، ويرده آخرون، وما حدث لشرح أبي الفتح مثل ما حدث لكل شرح بعده سواء كان شرح المعري، أو المرزوقي، أو المعري. إلا أن هناك أمراً مهماً يتصل بالفسر، وهو أن غالب الذين جاءوا بعده، لا تخلو شروحهم منه، فهم إما ينقلون عنه، أو يردون عليه، أو يحاورونه، ونجد آراء أبي الفتح في الفسر منتشرة فيمن جاء بعده، كابن فورجة الذي جعل ابن جني في عنوان الكتاب أو المعري في «اللامع العزيزي»، أو حتى الواحدي، وسواهم، لدرجة أننا لو قلنا إن كثيراً من الشروح هي بمثابة حواشٍ على كتاب أبي الفتح لما كان القول بعيداً عن الحقيقة، ذلك أن أبا الفتح كان حافزاً على التأليف سواء بما أفاده من آراء سديدة، بعثت حب التنافس في نفوس من جاء بعده، أو بما اقترح من شروح كانت مبعث الرفض، والدفع إلى الكتابة من جديد. فالحركة العلمية التي قامت حول شعر أبي الطيب كان لأبي الفتح النصيب الكبير منها، فهو أول من فتح القول في بيان معاني أبي الطيب، وفي نقده، وبيان سرقاته كما يقول القدماء، فأظهر الأبيات التي تشبه أبيات أبي الطيب، وقد أخذها منه، وهو الذي وازن بينه وبين الشعراء من قبله أمثال أبي تمام، والحسن بن هانئ وبين ما فاقهم أو قصر عنهم فيه. بالإضافة إلى أنه كان معاصراً له، وقد عرض عليه كثيراً من آرائه في شعره، وناقشه فيما عنّ له من ملاحظات لغوية، أو أدبية، مما أكسب آراءه تلك، ونقده مصداقية بوصفه عالماً بشعر الشاعر، متمكناً فيه، وكان يتمتع بذوق فني جيد، لا نجده أحياناً عند أبي العلاء المعري الذي اشتهر بكونه شاعراً أديباً أكثر من ابن جني. فالمعايب، والمآخذ ليست بالضرورة تدل على ضعف العمل، وعلى خطأ ابن جني، وإنما تدل على اختلاف وجهة النظر في المأخذ الذي من خلاله نظر إلى البيت، وهنا ندرك أن القدماء بما فيهم الواحدي قد بالغوا في ذم «الفسر»، وتجنوا عليه بالانتقاص من ابن جني حين أصبح ذمّه سمة شراح شعر المتنبي، والمتحدثين عنه، وشنّعوا عليه ما قام به في حين أنهم عالة عليه وعلى ما كتب.
مشاركة :