الهوية والقومية - د. إبراهيم بن محمد الشتوي

  • 2/7/2015
  • 00:00
  • 29
  • 0
  • 0
news-picture

- الرياض وعلى خلاف ما جاء في التاريخ العربي، طرح سؤال «النحن» في العصر الحديث، فإذا كانت الأدبيات القديمة طرحته من خلال «اللغة» و»الدين» بوصفهما المكونين الكبيرين للقومية العربية-الإسلامية، فإن مفهوم «الأنا» في مطلع العصر الحديث أخذ صورة جديدة، فقد تأثر -أولا- بالدعوات القومية الأوربية في القرن الثامن عشر التي دعت إلى تعزيز الشعور القومي في منطقة اللاتينية، مما دفع بشعوبها إلى التنادي إلى الحديث بلهجاتها المحلية، وإحلالها محل اللغة الأصلية، واعتبار هذه اللهجات هي المركز في بناء هويتهم القومية. ومن هنا بدأت الدعوات لإعادة النظر في بناء مفهوم «القومية العربية»، والبحث فيها باعتبارها هي الرابطة الحقيقية لأبناء هذه المنطقة، والمكون لها، والسبيل لتأسيس وطن جديد يختلف عن الوطن الأصلي، وجاءت الدعوات في القرن التاسع عشر تتبنى هذه الأطروحات، وتعيد النظر في مفهوم تكونات الأنا، وتعيد البحث فيها بشكل موسع. وقد جاءت هذه الدعوات في أول أمرها على يد المسيحيين في لبنان وسوريا، حيث يعيدها صاحب كتاب «الإسلام والمسيحية» إلى الشيخ ناصيف اليازجي»، رائد حركة التنوير العربي –كما يرى- ثم بطرس البستاني، وسليم البستاني فيما بعد، وهم الذين يمثلون الجيل الأول من التنويرين العرب. على أن هذه الدعوات قد اقتصرت على بعث التراث العربي، والكتابة على طرائق الأقدمين في العصور الذهبية للثقافة العربية، ولم تكن مباشرة في دعوتها إلى نظرية واضحة في القومية العربية بوصفها هي المكون الوحيد للهوية العربية، لكنها شكلت وسيلة جيدة لدخول المسيحيين من لبنان وسوريا بشكل فاعل في صياغة الثقافة العربية المعاصرة، وللقيام بدور مركزي في بناء الوعي العربي حيال ذاته وحيال الآخر كما يرى «جورافسكي»، خاصة بما تلاها من جهود جرجي زيدان في كتابيه «تاريخ التمدن العربي»، و»تاريخ آداب العرب»، ثم أعمال فرج أنطون المتمثلة بنصوص روائية فلسفية «حاول أن يؤسس ويؤصل من خلالها ماضي العرب بصورة جديدة»، ثم مساهمة السوريين في إنشاء الصحف العربية، والتي جاءت باكورتها على يد خليل الخوري صاحب صحيفة «حديقة الأخبار»، ثم صحيفة «مصر»، ثم «التقدم»، ثم «الأهرام»، ثم «الهلال»، ثم «المقتطف»، وهي جميعا –كما هو معلوم- صحف عنيت بأخبار المجتمع، والثقافة، والأدب، والترجمة. بل جعلت هذه الجهود للمسيحيين قصب السبق في بناء الفكر العربي الحديث، ووضع أسسه التي سار عليها فيما بعد أغلب من جاء بعدهم، وكانوا قادرين من خلال كتبهم، وصحفهم، ومطابعهم أن يغيروا واقعهم السابق المنكفئ على أنفسهم إلى أن يصبحوا في كثير منها عماد الحركة العلمية، والأدبية، والصحفية العربية، ثم تغيير الواقع العربي في موقفه من الآخر. وهذه الدعوات لم تكن واضحة أو مباشرة في تبني نظرية للقومية العربية، أو أيضا في التصريح بأنها تسعى لصياغة رؤية جديدة للعلاقة بين مكونات المجتمع العربي الإسلامي آنذاك، وإنما هذه المباشرة، والصراحة جاءت على يد أبنا الجيل الثاني من التنويريين المسيحيين الذين استلهموا الحراك الفرنسي الذي قام به نابليون، وسعوا إلى ترجمته واقعا إلى الثقافة العربية، وصياغته صياغة تناسب البيئة والجغرافيا، إلى أن نضجت بعد ذلك على يد نجيب عازوري الذي بدأ الحديث عن «امبراطورية» عربية تتحدث لغة واحدة، ولها تقاليد تاريخية مشتركة، وأبدعت أدبا واحدا، وتتكون من أمة واحدة تضم المسيحيين إلى جانب المسلمين. وقد حفز سؤال «النحن» بعد ذلك كثيرين إلى طرح السؤال نفسه خاصة بعد أن انتقل –السؤال- من الشام إلى مصر على يد المسيحين الذين عملوا في الصحافة والثقافة، ومن المسيحين إلى المسلمين الذين لم يكونوا يشعرون بالإشكالية التي يشعر بها المسيحيون حيال البيئة المحيطة بهم - كما مر من قبل-، وهو ما جعل السؤال يتحول إلى وسيلة مقلقة لتفكيك الأمة العربية والإسلامية بمفهومها القديم، خاصة وأن السؤال لم يعد مقتصرا في طرحه على أصحاب الأرومة العربية وحدهم، ولم تعد الإجابة عليه أيضا واحدة بأن الأمة أمة عربية ولغتها العربية كما كانت في الزمن القديم. ومن يراجع كتاب «الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر» للدكتور محمد محمد حسين يجد أن السؤال قد انداح واتسع ليشمل فئات إثنية، وعرقية كانت تشكل فسيفساء الجسد العربي ليصبح طريقا لبحثهم عن الاستقلال، والتقوقع على ذواتهم، والانفصال عن البيئة المحيطة بهم، بل كان وسيلة للتفنن في البحث عن المرجعيات المختلفة سواء كانت قديمة أو حديثة، وفي حديث «طه حسين» في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» خير شاهد على هذا إذ كان يرى فيه أن مصر أوربية، وموقف محمد حسين هيكل الذي يرى مصر فرعونية، ومن يدعو إلى فينيقية لبنان وسوريا. هذا التشرذم في المشهد الثقافي حيال تحديد مفهوم «الأنا» في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين دفع سؤال الذات –خاصة عند العروبين- إلى تحولات جذرية، أدت إلى عدم الاكتفاء بالخطاب الثقافي والإعلامي كما كان من قبل، بل تجاوزوه إلى تأسيس حركات وأحزاب تدفع في تأسيس كيانات سياسية قائمة على هذه الخطابات، وتحويل هذه الخطابات إلى أيديولوجيات مدعومة بقوة السلاح، تقوم على ثنائية الأنا والضد، وتتسم بقدر كبير من التطرف في تمجيد الذات، وتهميش الآخر، وتقوم في الانتشار على العنف ومصادرة الآخرين حقهم في الوجود، والتعبير عن الرأي مما أدى إلى الملاحقة، والسجن والتهجير لكل من لا يؤمن بوجهة نظرهم. فظهر في الشام منذ منتصف ثلاثينيات القرن الميلادي المنصرم أحزاب، وتجمعات تنبني على التجمعات والآراء السابقة، وتكمل طروحتها ولكن بصورة أكثر تطرفا، وحزبية، وصرامة، فظهرت الأحزاب القومية العربية، وحزب البعث بفروعه المختلفة، وظهر جيل جديد من المنظرين في هذا الاتجاه من أمثال زريق، وعفلق، وآل البيطار، والحصري. هذه الرؤية الصارمة التي تبنتها هذه الأحزاب في تحديد مفهوم «الأنا»، وتحويله إلى برامج حزبية دقيقة، انعكست على الآراء الأخرى في تحديد هذا المفهوم خاصة الإسلامي منها، فأصبح هو بدوره أيضا (ومنذ نهاية القرن التاسع عشر) يرتب نفسه، ويعيد صياغة رؤيته في صورة جديدة عما كانت عليه من قبل على يد الأفغاني ومحمد عبده ثم محمد رشيد رضا، وأخيرا على يد حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين. وكما كان خطاب القومية العربية يتكون من محددات أيديولوجية دقيقة، ويقوم على معادلة الأنا والآخر، كذلك كان الخطاب الإسلامي، فحمل في داخلة رؤية إقصائية تصنيفية، تقوم على نفي القومي والاكتفاء بالديني وفق صيغة جديدة في تحديد مفهوم الأنا وما ينبغي أن تكون عليه. وفي ظل هذا النفي والنفي المضاد، لدى هذه الاتجاهات الباحثة في مفهوم «النحن»، وتداخل السياسي بالثقافي، بحيث أصبح كل طرق يطرح مفهومه للأنا مع برنامج تطبيقي، يتضمن هذا البرنامج نفي الآخر، وإلغاءه وإن لم يقل هذا صراحة، واستخدام العنف في فرض رؤيته، وإقصاء المخالف تشرذمت «الأنا»، بوصفها مفهوما أولاً يحوي مكونات عدة، ثم بوصفها حالة جسدية وطنية لم تستطع أن تفهم نفسها أو أن تلتقي معها تحت قبة مصلحة مشتركة. - alshatwy@gmail.com

مشاركة :