إذا دخلت سوبر ماركت لشراء الرز ستجد أمامك أكثر من عشرين نوعاً.. قرار الشراء لن يعتمد على الجودة بقدر ما يعتمد على قدرة الغلاف الخارجي على لفت انتباهك أو تأثير الدعاية السابقة التي ركزت نظرك على البضاعة حسب توضيح ميشيل جولدهابر، 1997. منذ منتصف التسعينات نبه علماء الاقتصاد والاجتماع إلى أن الاقتصاد في طريقه إلى أن يصبح قائماً على الانتباه بدلاً من الاقتصاد القائم على الوفرة السلعية أو الجودة. عندما تمسك بهاتفك الذكي ويمر أمامك في أحد التطبيقات عدد هائل من المعلومات والمشاهد الترفيهية والصور والمنشورات والإعلانات.. من الصعب التركيز ومن الصعب الانجذاب لجميعها فما الذي يخطف أنظارك؟ وفيما أنت قد قررت الاستمتاع بمشاهدة مقاطع مضحكة، إذا بالإعلانات تحاول أن تلفت انتباهك لسلعتها ليتشتت تركيزك عما تشاهد أو تستمع إليه ويصيبك الضيق، ليأتيك الفرج من تطبيق آخر يعرض عليك الاستمتاع بالمشاهدة والاستماع دون مقاطعة الإعلانات ولكن بمقابل مالي.. التطبيق المجاني والآخر المباع والإعلانات كلاها تشترك في سلعة واحدة، هي «انتباهك»! «اقتصاد الانتباه».. يبدو المصطلح به شيء من الغرابة وعدم الاتساق، رغم أن هذا النوع من الاقتصاد يغمرنا منذ أكثر من عقد... وكان أول من أثار الفكرة هو عالم النفس الاقتصادي هربرت سيمون قبل نحو نصف قرن (1971) عندما كتب عن ندرة الانتباه في زمن انفجار المعلومات: «في عالم غني بالمعلومات، فإن ثروة المعلومات تعني ندرة في شيء آخر: ندرة كل ما تستهلكه هذه المعلومات. ما تستهلكه المعلومات واضح إلى حد ما: فهو يستحوذ على انتباه متلقيها. ومن ثم فإن ثروة المعلومات تخلق فقرًا في الانتباه والحاجة إلى تخصيص هذا الانتباه بكفاءة بين الوفرة الزائدة لمصادر المعلومات التي قد تستهلكه». ما يريد سيمون قوله أن مصممي نظم المعلومات أنشؤوا أنظمة تقوم على توفير كم هائل من المعلومات دون تصفية المهم منها وذات الصلة بتلك غير المهمة وغير ذات الصلة، فلم يميزوا بين ندرة المعلومات وندرة الانتباه.. فالمعلومات تتزايد والمثيرات تتكاثر فيما التركيز ينخفض فيصبح المهم من الناحية الاقتصادية هو جذب الانتباه والاهتمام للترويج للسلع وتحقيق الأرباح. شاع بعد ذلك تشخيص سيمون حول مشكلة زيادة المعلومات على حساب التركيز والانتباه، ومنذ منتصف التسعينات - كما أشير في المقدمة - تم تبني مصطلح «اقتصاد الانتباه» (Attention economy)؛ وهو نهج في إدارة المعلومات يعامل فيه انتباه الإنسان كسلعة نادرة، ويطبق النظرية الاقتصادية إلى حل مختلف مشكلات إدارة المعلومات؛ وقد عرَّف توماس دافنبورت وس. بيك (2001) مفهوم الانتباه، بأنه «يركز الانتباه على المشاركة الذهنية على عنصر معين من المعلومات. تدخل العناصر إلى وعينا، وننتبه إلى عنصر معين، ثم نقرر ما إذا كنا سنتصرف». كما صاغها ببساطة ماثيو كروفورد (2015)، «الانتباه هو مورد محدود الكمية للفرد». الآن، في هذا العصر الرقمي، فإن انفجار المعلومات ظل يتسع أكثر فأكثر ليصبح الانتباه العامل المحدد في استهلاك المعلومات، فقدرة البشر العقلية محدودة، وبالتالي فإن تقبل المعلومات محدود أيضاً، فيستخدم الدماغ البشري الانتباه لتصفية المعلومات الأكثر أهمية من بين مجموعة هائلة من المعلومات.. لذا تسعى كافة نظم المعلومات (من تطبيقات برمجية ومنصات ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات التجارية) إلى لفت انتباه وجذب اهتمام وخطف أعين المستخدمين بشكل مكشوف أو مبطن. وفقًا لخبير الثقافة الرقمية كيفن كيلي، فإن اقتصاد الانتباه الحديث يتنامى بشكل متزايد (1999)، بعدها وضع مالكوم جلادول في كتابه «نقطة الحافَّة»: (The Tipping Point, 2000) ثلاثة عوامل تسويقية لجذب انتباه الجمهور إلى بضاعتك أياً كانت فنية، أدبية، تجارية، سياسية. هذه العوامل هي: عامل الشكل المؤثر: أي شيء يحبه المستهلكون؛ عامل اللصق بالذاكرة: أي شيء يلتصق بذاكرة المستهلك؛ عامل قوة السياق: أي شيء يناسب السياق المكاني والزماني والملابسات المحيطة بالوضع. لذلك تجد بعض النجوم السابقين (في أي مجال) الذين شعروا بانحسار الأضواء عنهم قد يلجؤون إلى أي من هذه الطرق للفت الانتباه، وصاروا يدخلون في مجالات ليست لهم من أجل العودة للبريق الذي اعتادوا عليه. هذا أيضاً ينطبق على المؤثرين والمشاهير الجدد في وسائل التواصل الاجتماعي وإن كانوا يتميزون عن النجوم السابقين بمهارة لفت الانتباه، بغض النظر عن موثوقية المحتوى.. الطريقة السابقة للإعلان في وسائل الإعلام التقليدية تفترض أن ردة فعل المستهلكين تمر بعملية تفاعل خطي من أربع مراحل: الانتباه، ثم الاهتمام، ثم الرغبة وأخيراً الإجراء أو التصرف. وفقاً لذلك، فالانتباه هو المرحلة الأولى والأهم في عملية تحويل غير المستهلكين إلى مستهلكين. نظرًا لأن تكلفة نقل الإعلانات إلى المستهلكين أصبحت منخفضة، وصارت يتم إرسال المزيد من الإعلانات إلى المستهلك (مثل الإعلان بالإنترنت) أكثر مما يمكن للمستهلك التعامل معه، أصبح انتباه المستهلك هو المورد النادر الذي سيتم تخصيصه. على هذا النحو، قد تعيق وفرة المعلومات عملية صنع القرار للفرد الذي يواصل البحث والمقارنة بين المنتجات طالما أنها تعد بتقديم أكثر مما يستخدمه (ألكسندر دولجين، 2008).
مشاركة :