التاريخ يجعلنا نفكر مليّاً

  • 2/2/2022
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يدفع الوضع الدولي الحالي الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية إلى التمعن من جديد في الفترة السوفياتية من تاريخ علاقات روسيا مع الغرب في الشرق الأوسط، والتفكير مليّاً في دروسها. سأسمح لنفسي بالعودة بالتاريخ إلى النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، عندما خطط الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف لخلخلة الكتل العسكرية السياسية المعارضة لـ«المعسكر الاشتراكي» بمساعدة (كما عبر عن ذلك لاحقاً في إحدى الجلسات العامة للجنة المركزية للحزب الشيوعي) «طريقة خاصة لتنفيذ السياسة الخارجية، من خلال تهديد الإمبرياليين بالحرب». في الواقع، كان يدور الحديث عن سلسلة من الأزمات العسكرية السياسية الإقليمية المتتالية والمترابطة فيما بينها، والتي اكتسبت منذ عام 1958 طابعاً هجومياً جيوسياسياً منسقاً. تم في البداية اختبار هذا النموذج «الطريقة الخاصة لتنفيذ السياسة الخارجية» خلال أزمات السويس (1956) وسوريا (1957)، لكنه تبلور نهائياً خلال أزمة الشرق الأوسط في صيف عام 1958. ففي تلك الفترة بالذات، وفي يوليو (تموز) تحديداً، اندلعت الثورة المناهضة للملكية في العراق. كان الوضع في المنطقة على النحو التالي: مصر، الحليف الرئيسي للاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط في ذلك الوقت، كانت في حالة صعود، وتعمل على زيادة نفوذها في الدول العربية. وكانت ملامح اتحاد تكامل عربي جديد آخذة في الظهور، يمكن أن تتحد فيه مصر وسوريا واليمن «على أساس فيدرالي». ولم يكن من المستبعد، حسب خطط موسكو ووفقاً لواحد من أكثر الباحثين الروس خبرة في تلك الحقبة (لن أذكر اسمه الآن)، أن ينضم العراق إلى هذا الاتحاد في أعقاب الثورة. لقد تم التوصل إلى استنتاج أن مواقع بريطانيا، التي كانت تقليدياً تهيمن على المنطقة، قد قُوضت بشكل خطير. لم تستطع الولايات المتحدة تشكيل تجمع إقليمي بديل، وفشلت محاولة وكالة الاستخبارات المركزية في استنساخ نجاحها الذي حققته في إيران (حين أطاحت بحكومة مصدق عام 1954) ثلاث مرات في سوريا: المرة الأولى في عام 1956 ومرتان في عام 1957 عندما كان من المفترض ربط الانقلاب بعملية عسكرية للأتراك على الحدود السورية. وعلى خلفية سلسلة من المؤامرات ومن الانقلابات والانقلابات المضادة في المنطقة، قام الأميركيون في شهر يوليو بعملية إنزال بحري في لبنان، وبالتوازي معها قام البريطانيون بنقل مظليين إلى الأردن، ليشكلوا بهذه الطريقة، على حد تعبير وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس، «سدوداً» منيعة أمام الفيضانات التي سببها صعود القومية العربية. قررت موسكو أن إنزال القوات الأميركية والبريطانية في لبنان والأردن هو مرحلة تمهيدية لتوجيه ضربة عسكرية إلى الجمهورية العربية المتحدة والعراق، وأن تركيا، بدعم من دول أخرى في حلف بغداد، ستتولى زمام المبادرة في إطلاق العنان لعدوان عسكري. ومن أجل منع تركيا وإيران من الوقوف ضد العراق والمنطقة السورية في الجمهورية العربية المتحدة، قام الاتحاد السوفياتي بإجراء مناورات عسكرية واسعة النطاق، حيث تم خلال تدريبات «الصقر الجبلي» العملياتية تحديد المهام وفقاً للخطط القائمة حينها لاستخدام القوات المسلحة للاتحاد السوفياتي وحلفائه بموجب حلف وارسو، والتي تفترض منذ اليوم الأول للحرب، في حال لزم الأمر، توجيه ضربات نووية للعواصم والمطارات والقواعد النووية على كامل عمق أراضي العدو. وكان من المفترض أيضاً أن يستخدم «العامل الكردي» لإضعاف تركيا وإيران. وتحدث سفيرا الاتحاد السوفياتي في أنقرة وطهران خلال لقاءاتهما مع قيادتي هاتين الدولتين عن حتمية حرب كبيرة في حال غزو الأتراك للعراق. كان للضغط العسكري - السياسي للاتحاد السوفياتي التأثير المنشود على جيرانه، إذ أعرب شاه إيران خلال لقاء مع السفير الأميركي في 20 يوليو، (في إشارة، من بين أمور أخرى، إلى رأي حليف أميركي آخر، ألا وهو رئيس باكستان)، عن موقفه المتشدد ضد الغزو التركي للعراق، ناهيك عن المنطقة السورية في الجمهورية العربية المتحدة. وبالفعل، في بداية عام 1959 بدأت عملية مفاوضات مكثفة بين موسكو وطهران، كان الهدف منها بالنسبة للكرملين تحييد إيران. وفي موازاة ذلك، ورغم أنها لم تحقق النجاح نفسه، حاولت هيئة رئاسة اللجنة المركزية إشراك الأتراك في عملية التفاوض، خصوصاً بعد الانقلاب العسكري في أنقرة في مايو (أيار) 1960 الذي أدى بالنتيجة إلى اتهام رئيس وزراء تركيا في الفترة 1950 - 1960 عدنان مندريس (كان أسلافه من التتار من شبه جزيرة القرم) بالخيانة العظمى وشنقه، وترأس زعيم الانقلاب الجنرال جمال جورسيل للجمهورية (حتى عام 1966). بكين، رغم الخلافات التي بدأت حينها مع موسكو، كانت لا تزال تتعاون معها، وقررت أن «الأميركيين عالقون في دوامة من الأحداث في الشرق الأوسط»، وبدأت أزمة تايوان الثانية في سبتمبر (أيلول) 1958: «حصار مدفعي» لجزر ماتسو وجينبينغ الساحلية، التي كان يسيطر عليها الكومينتانغ (الحزب القومي الصيني)، وقصف مدفعي متبادل، ومعارك جوية بين جيش التحرير الشعبي الصيني والقوميين الصينيين على جبهة فوجيان، (وصل عدد طلعات طائرات سلاح الجو لجيش التحرير الشعبي الصيني حينها إلى 30 طلعة جوية في اليوم). تصرفات بكين لاقت دعماً كاملاً من قبل موسكو. وكان الاتحاد السوفياتي مستعداً خلال الأزمة لإرسال قاذفات (تو 16) بصواريخ مجنحة لاستخدامها ضد سفن تشانغ كاي شيك (وإذا لزم الأمر، ضد تايوان)، ومستعداً أيضاً لتزويد جمهورية الصين الشعبية بضمانات أمنية نووية في حال تصاعد الأزمة. خروتشوف لاحظ، في لقاء مع السفير الصيني في 16 سبتمبر، كما أشار الباحث الروسي نفسه، أنه لو تم التمكن من إجبار الولايات المتحدة على تقديم تنازلات في منطقة تايوان، لشكل هذا حينها الهزيمة العلنية الخامسة لـ«الإمبرياليين» بدءاً من عام 1956: الأولى هي فشل مغامرتهم في مصر، والثانية في سوريا، والثالثة في العراق، والرابعة في إندونيسيا، وأخيراً في تايوان، ناهيك عن فشل خططهم في بولندا والمجر. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 بدأت أزمة برلين الثانية، وهي الأكبر والأطول من بين جميع الأزمات العسكرية والسياسية الإقليمية في تلك الفترة، إذ استمرت حتى عام 1963، واعتبر خروتشوف التهديد بمنع القوى الغربية من الوصول إلى برلين الغربية وسيلة فعالة لإثبات الطبيعة «الورقية» للضمانات السياسية العسكرية لـ«الناتو». في الوقت نفسه، انطلقت الهيئة الرئاسية للجنة المركزية للحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي من حقيقة أن تسوية المشكلة الألمانية وفقاً للشروط التي اقترحتها موسكو ستؤدي أولاً إلى تحييد جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية)، وبعد مرور بعض الوقت إلى اتفاقية عدم اعتداء جديدة في العلاقات بين ألمانيا الغربية والاتحاد السوفياتي. أزمة الشرق الأوسط وأزمة تايوان عام 1958 اتسمتا بقصر عمرهما، وبالانتقال السريع إلى المرحلة التفاوضية. وهكذا تطورت أزمة برلين الثانية في الأصل. وفي وقت مبكر من مايو 1959 تم افتتاح مؤتمر لوزراء خارجية القوى الأربع، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، في جنيف. وبحلول يوليو، وفقاً لتقييم وزير الخارجية أندريه غروميكو، بدأ فعلياً الأساس للتوصل إلى اتفاق عملي بشأن برلين الغربية يلوح في الأفق. ولم يكن الأميركيون وحلفاؤهم مستعدين للقتال من أجل برلين الغربية. فكما يكتب المؤرخون الأميركيون، كانوا مستعدين حتى لقبول اتفاقية مؤقتة بشأن برلين، التي من شأنها أن تزيل تهديد الإنذار السوفياتي. كانت القيادة السوفياتية تأمل بجدية في إنهاء مبكر للمرحلة الحادة من المواجهة مع القوى الغربية. وقد تجلَّى ذلك في قرار هيئة رئاسة اللجنة المركزية بشأن تنفيذ الإصلاح العسكري وتقليص حجم القوات المسلحة بمقدار الثلث، عشية اجتماع القمة المخطط له. وكان من الواضح أن الأمر يتعلق بالانتقال إلى عقيدة عسكرية دفاعية. ورغم راديكالية أفكار «الحرب الخاطفة النووية» التي هيمنت على المناقشات حول القضايا العسكرية في مطلع الخمسينات والستينات من القرن الماضي، إلا أن مقاربات القيادة العسكرية - السياسية للاتحاد السوفياتي تجاه قضايا الدفاع باتت حينها معتدلة وعقلانية تماماً، كما يتضح ذلك من خلال الوثائق الأرشيفية. يبدو أن صفحات التاريخ هذه تحملنا على التفكير بأنه عندما ينتصر الفكر العقلاني، يمكن تجنب الحرب حتى في أكثر المواقف توتراً.

مشاركة :