كانت مفاجأة رائعة تلك التي أعلنها مركز أبوظبي للغة العربية، وإدارة معرض أبوظبي للكتاب، في المؤتمر الصحفي الذي جرت وقائعه في أحد فنادق القاهرة يوم الجمعة الماضي، للإعلان عن اختيار شخصية عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، شخصية محورية لمعرض أبوظبي للكتاب في دورته الحادية والثلاثين، المقرر إقامتها خلال الأسبوع الأخير من مايو القادم. على أن يتضمن الاحتفال والاحتفاء بطه حسين الإعلان عن سلسلة منشورات تحمل اسمه، وتهتم بالدراسات والأبحاث المخصصة لفكره وأعماله وسيرته، عن مركز أبوظبي للغة العربية، بالتعاون مع نخبة من الناشرين العرب، وكذلك رعاية طبعة ورقية جديدة من أعمال الدكتور طه حسين لتوفيرها عربياً، ورعاية تحويل مختارات من كتاباته إلى أشكال المطبوعات الحديثة، السمعية والإلكترونية والمصورة، بالتعاون مع ناشرين عرب. - 2 - وقد سعدتُ وتشرفت بالمشاركة في «الخلوة الثقافية الثانية للغة العربية» التي نظَّمها مركز أبوظبي للغة العربية على هامش فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الثالثة والخمسين (الذي تقام فعالياته حالياً بالقاهرة)، ضمن مشروع/ مبادرة خلوات اللغة العربية التي ينظمها مركز أبوظبي للغة العربية في العواصم العربية المختلفة. وقد حظيت هذه الخلوة الثقافية بحضورٍ كثيف لقامات علمية وثقافية ومعرفية عالية المقام، كان على رأسهم معالي محمد المر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، والدكتور علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، والناقد الدكتور صلاح فضل رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، والمدير التنفيذي بالإنابة لمركز أبوظبي للغة العربية سعيد حمدان الطنيجي، وعبدالله ماجد آل علي مدير الأرشيف الوطني بأبوظبي.. وجمع غفير من كبار المثقفين والمتخصصين في اللغة العربية والأدب العربي والإعلام والإنسانيات. وقد اجتمعوا لمناقشة وجوه وجوانب من هموم وتحديات لغتنا الجميلة، من خلال ستة محاور رئيسة تتعلق باللغة العربية وعلاقتها -أو تداخلها- مع الإبداع بمختلف أنواعه، والنشر، والتعليم، والإعلام، والبحث العلمي، بالإضافة إلى محور سادس عن إرث طه حسين. وهذه الخلوة، التي تم تنظيمها بشكل دقيق، انطلقت من العمل على بحث سبل تطوير وتعزيز حضور اللغة العربية، باعتبارها لغة حضارة وفنون وفكر، والحقيقة كما يقول الناقد الدكتور حسين حمودة، فإن محاور حلقات النقاش الستة، في هذه الخلوة الفكرية، التي شارك فيها جمع كريم من خيرة المبدعين والباحثين والنقاد، قد غطّت مجالات أساسية لحضور، وأيضاً لتحديات اللغة العربية في حياتنا المعاصرة. وقد أشار الدكتور حسين حمودة في كلمته المهمة، ضمن كلمات افتتاح الخلوة إلى أن «كل مجال من هذه المجالات يحتاج إلى درس خاص وعناية جادة، من أجل تقصي مشكلات حضور العربية في هذا المجال، ومن أجل معالجة هذه المشكلات الماثلة، والواضحة لنا جميعاً، في حاضرنا الذي يتغير باستمرار، ومن أجل استشراف ما يمكن أن يصل كل مجال من هذه المجالات بتغيرات أخرى كبيرة، ممكنة ومتوقعه، ولعلها مؤكدة، في مستقبلنا الذي نمضي إليه». - 3 - وفي محور إرث عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، لم أكن أتوقع صراحة مشاركة كل هذا العدد من صفوة المثقفين والمتخصصين في العلوم والآداب والفنون والمعنيين باللغة العربية عامة، وفي إرث طه حسين خاصة. فالطاولة المستديرة التي حضرها الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، شارك في مناقشاتها كلّ من: الدكتور سلطان الرميثي، والدكتور حسين حمودة، والدكتور عمار علي حسن، والدكتور محمد عبدالباسط عيد، والباحثة رانيا هلال. وعلى مستوى الجلسة التي تشرفت بالمشاركة فيها، وقراءة مخرجاتها ومقترحاتها، فوجئت بأفكار مذهلة وملهمة حول إرث العميد طه حسين، وكيف يمكن الاستفادة منه واستعادته مجدداً وفق رؤى وسياسات أتصور أن مركز اللغة العربية بأبوظبي قادر تماماً على تبنيها وترجمتها إلى أفعال حقيقية على الأرض. علي بن تميم وجانب من الأكاديميين والباحثين المشاركين في الفعالية علي بن تميم وجانب من الأكاديميين والباحثين المشاركين في الفعالية يقول الدكتور حسين حمودة:«إن تخصيص محور كامل سادس من محاور الخلوة الستة لإرث طه حسين تخصيص دال، فخلال الأدوار المتعددة التي قام بها طه حسين، وخلال الكتابات المتنوعة التي كتبها، والمواقف المشهودة التي انطلق منها، والتصورات المستشرفة التي صاغها.. في هذا كله بلور طه حسين ميراثاً عظيماً في وجهتين: وجهة رصد مشكلات حضور العربية في أغلب هذه المجالات، في زمنه بالطبع، ووجهة البحث عما يمكن أن يتخطى هذه المشكلات، في المستقبل الذي أطلّ عليه.. وقد قدم اجتهادات كبيرة القيمة تصلح في زمننا لتأملها، ولغربلتها، وللتشييد على ما يصلح منها لأن يمكث في الأرض». والسؤال: لماذا، إذن، طه حسين شخصية محورية لمعرض أبوظبي للكتاب؟ تأتي الإجابة من المشاركين في جلسة العصف الذهني النشطة والمتوهجة على امتداد ما يقرب من الساعتين، وقد حضر الجزء الأكبر منها الدكتور علي بن تميم رئيس مركز أبوظبي للغة العربية، وأنصت باهتمام لكل المتحدثين وناقشهم فيما طرحوه من أفكار ومقترحات ومحاور، وفي ختام الجلسة قام الدكتور حسين حمودة بصياغة مُركزة ومكثفة للمخرجات والمقترحات والتوصيات التي أسفرت عنها الجلسة، وتلاها على الحضور كاتب هذه السطور، تمهيداً للإعلان عن اختيار طه حسين شخصية محورية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب 2022، بل اعتباره شخصية العام الثقافية طوال العام في أبوظبي. - 4 - وقد قدم كاتب هذه السطور تصوراً للإجابة عن السؤال: لماذا طه حسين؟ جاء كما يلي: أولاً، لأن حياة الدكتور طه حسين (1889-1973)، الملقَّب بعميد الأدب العربي، والملقَّب أيضاً بعميد الفكر العربي المعاصر، (ولا أتردد أبداً في تلقيبه أيضاً بعميد الثقافة العربية الحديثة كلها من دون منازع!) تمثل بغير شك سعياً متجدداً لتجاوز التخلف، وتأصيل قيم التقدم على أساسٍ من الانتماء الثقافي والتفاعل الحضاري، في أبهى وأزهى صوره، وأكثرها نضارةً وتألقاً وتأثيراً، فقد كان مؤرخاً للأدب، وناقداً له، كما كان ناشطاً سياسياً ومصلحاً اجتماعياً، وكان مثقفاً موسوعياً وتنويرياً، ككل قادة التجديد والنهضة والتنوير، يُسهم مع أقرانه في المجالات السابقة، وغيرها، في عملية الانتقال بمجتمعه من وهاد التخلف إلى ذُرى التقدم، ومن واقع الضرورة إلى آفاق الحرية، ومن كابوس التقليد للماضي الجامد إلى الحلم بالمستقبل الواعد الذي يظل دائماً في حالة صنع وتخطيط للزمن الآتي بالوعد، في مدى إمكان التحقق الذي لا نهاية له ولا حد. ثانياً، لأن حياته كلها كانت كفاحاً ومعاناة من أجل أن يستعيد للعقل مكانه ومكانته في تشكيل رؤية الناس لأنفسهم، ولتاريخهم، ولواجباتهم وحقوقهم، ولمشاكلهم وأسلوب مواجهتها، وللعالم من حولهم، ولكي يستعيد العقل وظيفته الطبيعية، بدءاً من الوعي بذاته ووجوده وصولاً إلى قدرته على السيطرة على الطبيعة والحياة. وكان من رأي طه حسين أن استعادة العقل لمكانه ولوظيفته هي الشرط الجوهري لصنع الحضارة، وللخروج من ظلمات التخلف، واللحاق بأوروبا كَنِدٍّ وشريك في صنع الحضارة، وهو المكان اللائق بمصر كأول بلدٍ بنى الحضارة وللثقافة العربية كرافد حضاري أصيل ضمن طليعة الثقافات والحضارات الإنسانية على مر العصور والتاريخ. ثالثاً، أنني منذ انتباه وعيي الذاتي لقيمة طه حسين وأدواره المتعددة الكبيرة، أدركت أن قيمته الكبرى، في ظني، تكمن أنه استطاع في لحظةٍ مبكرة، في السنوات الأولى من القرن العشرين، إدراك لُبِّ الأزمة التي يعانيها مجتمعنا، مجتمع يحيا مشكلات عالم قديم في زمن حديث، فقد أدرك طه حسين أننا ندق على أبواب العالم الحديث، ظاهريّاً، ونحن محملون حتى النخاع بقضايا وهموم عالم مضى وانتهى. - 5 - وأخيراً، تجسد الدلالة الرئيسة في هذا الاختيار الموفق لشخصية العام الثقافية في أبوظبي حرص دولة الإمارات العربية المتحدة، قيادة وشعباً، على نشر قيم التسامح والسلام واحترام الآخر وتعزيز التواصل المعرفي والحضاري ومحاربة التطرف، ونبذ التعصب وإحياء القيم الإنسانية النبيلة، وقد توج ذلك كله باختيار طه حسين بوصفه رمزاً ثقافياً وهب حياته للتفكير العلمي والإنتاج المنهجي الجاد، وإن عالمنا العربي ما زال في حاجة أكيدة ومُلحة إلى استكمال دوره وتوسيع أثره في مرحلته الراهنة بتحفيز وتعزيز ثقافة النهوض والإبداع، وتثمين واستلهام فكر رموز التجديد والتنوير.
مشاركة :