بعد كل جريمة بشعة يرتكبها الإرهابيون، في حق بشر يريدون فقط أن يعيشوا حياتهم الطبيعية، ندخل في حوار إيجاد حالة من التوازن بين الحرية والكرامة الإنسانية كقيمتين مطلقتين، وحجر زاوية لعالم ما بعد عصر التنوير الأوروبي، وبين أمن وسلامة البشر الذين يعيشون في دول ذات حدود واضحة، ويمارسون الاجتماع البشري في ظل قانون تراضى وقبل به الجميع. فهل يفرط الإنسان في حريته الفردية ويمنح الدولة صلاحيات لمطاردة من يكرهون الحياة، ويمارسون التخويف والقتل لتعكير صفو حضارة لا ينتمون إليها؟.. أم أن الدولة الغربية الحديثة تستمر هكذا في حالة إيمان مطلق بقيم الحرية، وتطوير أدوات مراقبة المجرمين بما لا يمس بتلك الحرية؟ ظني أنها الثانية، فالدولة التي لا تستطيع أن تحافظ على مواطنيها أحرارًا لا تستحق البقاء كنظام سياسي. استخدام الإرهاب كظاهرة، أو حتى الحروب كوسيلة لسلب المواطنين حرياتهم التي ولدوا بها كهبة من الخالق، هو سمة من سمات الدول الضعيفة. ولدينا في العالم العربي خلط في فهم الفارق بين الدولة القوية والدولة الضعيفة والدولة الشرسة. الدولة القوية هي ببساطة تلك الدولة التي يقرّ من بداخلها من المواطنين بأن نظامها نظام شرعي مبني على تراض بين الحاكم والمحكوم، نظام لا يتمتع فقط بقبول داخلي بل بقبول خارجي أيضًا. سويسرا مثلا ليس لديها ما يمكن وصفه بأدوات القوة التقليدية من جيوش جرارة وقوات أمن داخلي، لكنها تقع ضمن عداد الدول القوية، لأن نظامها يتمتع برضا داخلي وقبول خارجي، لدرجة أن معظم الناس يثقون في وضع كل أموالهم في بنوكها وليست هناك جيوش تحمي هذه البنوك. بريطانيا التي ليس لديها دستور مكتوب، ويسير نظامها منذ مئات السنين، ويحكمها تراكم الأعراف الإنجليزية، ويقبل الناس في الداخل شرعية النظام وكذلك كل الخارج تقريبا يشتري عقارات لندن لثقته بالنظام، هنا نقول إن بريطانيا دولة قوية. قوة الدولة لا تقاس بأدوات القوة التقليدية من جيوش ومعدات عسكرية وأدوات قمع، قوة الدولة في قبول نظامها من المحكوم في الداخل وممن يراقبون هذا الحكم من أهل الخارج. الدولة القوية هي تلك التي تتمتع بثقة الداخل والخارج. فإذا كان أهل الداخل لا يثقون بالنظام، وهناك أسئلة تطرح من الخارج لا تجد لها جوابا، فاعلم أنك في دولة ضعيفة. الدولة الضعيفة هي عكس كل ما قيل في الفقرتين السابقتين، ولكن لكي تعوض الدولة الضعيفة عجز ميزان الشرعية في الداخل وقلة القبول في الخارج، تحاول أن تستثمر جزءا كبيرا من ميزانيتها في بناء الجيوش وشراء الأسلحة وكذلك بناء منظومة تكون مدججة بأدوات القمع والتعذيب، وعندها لا تصبح دولة ضعيفة، فهنا ننتقل إلى مستوى آخر من تقسيم الدول وهو مستوى «الدولة الشرسة». الدولة الشرسة هي التي تعتمد على القوة الغشيمة في حالتها البدائية لتحقيق الأمن، ليس لمواطنيها، بل الأمن لحدود الدولة وتنظيم حياة من بداخلها عن طريق أدوات أمنية بدائية وفجة. فهل يمكن لدول الغرب القوية مثل بريطانيا وفرنسا وسويسرا، دعك من أميركا حتى لا ندخل في فخ بعض الكتاب العرب الذين يتعيشون على نقد النظام الأميركي.. هل يمكن أن تتحول هذه الدول القوية، في لحظة خوف، من دول قوية يحكمها القانون إلى دول غشيمة تحافظ على أمن مواطنيها عن طريق أدوات القمع واستهداف شرائح كاملة مثل شريحة المسلمين من أقلياتها ليصبحوا هدفا للقوة الغشيمة؟ قد ترغب بعض قيادات الانتهازية السياسية مثل اليمين الفرنسي في قلب نظام الدولة الفرنسية، وتحويلها من جمهورية تراض إلى جمهورية خوف، لكن قوة المجتمع تقف حائلا بين الدولة ورغبتها في تغيير معادلة الحكم التي تكون الحرية هي حجر الزاوية في معمارها السياسي. قوة الدولة أيضًا تعتمد على قوة المجتمع، فالمجتمع هو الذي يتحكم في فرامل الدولة ويكبح جماحها. عندنا المجتمع ضعيف والدولة شرسة، لكن في الغرب المجتمع أقوى من الدولة، أو الدولة نبتة طبيعية لهذا المجتمع، فمتى انحرفت عن منظومتها القيمية الحاكمة فقدت ما يضعها ضمن خانة الدول القوية وهو حالة التراضي، وأصبحت إما ضمن خانة الدولة الضعيفة التي تمثلها معظم دول العالم الثالث، أو الدولة الشرسة التي هي سمة من سمات الدولة في الشرق الأوسط. من يظن من كتابنا أن فرنسا مثلا، ونتيجة لهذا الحادث الإرهابي البشع، ستتحول إلى ليبيا القذافي أو مصر مبارك في قمع الحريات من أجل القضاء على الإرهاب، فهو مخطئ تمامًا. ستبقى فرنسا دولة حاضنة لمدينة النور وليست دولة يحكمها حزب النور. معادلة الأمن والحرية ليست جديدة على الدولة الأوروبية الحديثة، بل هذه المعادلة هي حصاد تجربتها التاريخية. والتفريط في الحريات لأن الإرهاب ضرب هنا أو هناك أمر غير وارد. ستبقى الدول القوية، وسيبقى الإرهاب من المافيا حتى «داعش» على هامش التاريخ الإنساني كأمر يتعايش معه العالم الغربي كما يتعايش الإنسان مع ظاهرة الدبيب، من عقارب وأفاعٍ وقوارض، فهي موجودة لكننا لا نحس بها كثيرا أو بأضرارها، لأننا طورنا أدوات حديثة في التعامل معها، وهكذا سيكون مصير «داعش» كما «القاعدة» من قبله، وكل من سبقهما من جماعات الدبيب الحركي والدبيب الفكري، وما أنتجاه من منظمات إرهابية.. والدبيب الفكري موضوع لمقال قادم.
مشاركة :