الشيخوخة هي المحطة الحرجة بين الوجود وما بعد الوجود، هي المرحلة القسرية بحكم الطبيعة حين يتحول الانسان من تفعيل جهده إلى اجترار ذكرياته، من طاقة متجددة مندفعة إلى طاقة توقف نموها وانكمشت على ذاتها حفاظًا على ما تبقى من دبيبها. بين خلجات هذه الشيخوخة، ومع تطور المجتمع الانساني من البدائية إلى التحضر، برزت نعمة (الراتب التقاعدي) للشيخ الهرم العاجز عن اطعام نفسه بجهده، ونعمة الراتب التقاعدي، في هذا العصر، هي المردود على مساهمة مالية منه عندما كان في مرحلة العطاء والانتاج، أي ان الراتب التقاعدي ليس صدقة، بل مردود استثماري للشيخ الهرم مساهمة مالية مباشرة، فقد كان يستثمر نسبة من راتبة الشهري في صندوق التقاعد، وكان يأمل ان يعود عليه الاستثمار بما يصون كرامته ويوفي حقوقه دونما حسابات ادارية غير موفقة وتقهقر في الحقوق ومساس بالكرامة، فقد كان حريصًا على مستقبل شيخوخته، وكبار السن في عهد قوته وقدرته كانوا المعيار الذي اعتمده لتصور حال شيخوخته. فكرة الراتب او المعاش التقاعدي ليست جديدة، بل انها تعود إلى العهد الروماني القديم حيث كان كبار السن من الجنود يمنحون معاشات تقاعدية تعينهم على الحياة. غابت هذه الفكرة عن الزمن والتاريخ والحياة إلى عام 1881، إلى ان جاء عهد المستشار الألماني أوتو فون بسمارك الذي يعود له الفضل في توحيد ألمانيا. أخبر بسمارك البرلمان الألماني في عام 1881 أن أولئك الذين لا يستطيعون العمل بسبب تقدمهم في السن أو اعتلال الصحة لديهم مطالب تستند إلى أسس جيدة لرعاية الدولة لهم. قائد سياسي مرموق جمع بين الحنكة والعدالة والحكمة يؤكد حقيقة واقعية ووجدانية راسخة بأن «كبار السن والمعتلين صحيًا لديهم مطالب تستند إلى أسس جيدة، اي شرعية، لرعاية الدولة لهم»، ومجتمعات اليوم غنية ومستقرة بالمقارنة مع سابقاتها، يمكنها تحمل كلفة المعاشات المتزايدة، إذا رغب اصحاب القدرة والقرار الذين بيدهم الحل والربط. ما قامت به امبراطورية روما في قديم الزمان وما أقدم عليه المستشار الألماني بسمارك في القرن التاسع عشر هو تسليط ضوء على امر جوهري، وهو ان رعاية الشيخوخة مسألة قيادية اكثر من كونها مسألة حسابية او محاسبية او حتى استثمارية... واقع الشيخوخة يتخطى هذه الجزئية من حياة الشيخ الهرم إلى ما هو اوسع واكثر حساسية واعمق وجدانيًا، وأجدر على التفكير وأشد أثرًا من مجرد حقوق مادية، رغم أن الحقَّ المادي حقٌّ ملزم قانونًا واخلاقًا، والالتزام يمتد من تحت سقف الاسرة إلى كامل المجتمع وبالاساس إلى رعاية وحماية الدولة.. هذا أمر لا لبس فيه، إذ البداهة فيه تتخطى كل مبررات الجدل والجدال. الانسان في هذه المحطة الحرجة يشغل نفسه بذكريات الماضي مخافة التفكير فيما ينتظره، ذكريات الماضي تصبح كتابه شبه المقدس، وهو يقلب صفحاته بحنين يتقلب بين متعة وألم، وأمل مستحيل ان تعود الايام إلى ماضي الزمان. يتيقن عندها ان الذي مضى يستحيل ان يعود، وان اجمل ما في حاضره هو ذكريات ماضيه بكل ما يحمل من آهٍ وآهْ.. آهِ المتعة والسعادة، وآهِ الالم والمعاناة. الآهُ لغزٌ وسحرٌ، فهو الجامع بالمطلق بين نقيضين، وتتمثل فيه وحدة الاضداد بوضوح تام لا يقتضي الشرح او التفسير!! عند ذروة المتعة تنطلق من اعماق النفس نغمة آهٍ شجية، وعند شدة الالم تنطلق شهقة آهٍ حزينة، وبينهما درجات من الانغام والشهقات. الشيخوخة عالم هادئ صامت قائم بذاته يجتر ذكرياته ولا يشاركه على مائدة الاجترار أحد، ولكنه يتخلل عالم العمل والانتاج والصراع والصخب، فهو موجود في العالم الحي مثل وجود الارث في جميع الحضارات.. وجوده انفاس من الماضي القريب، محسوس في الاسرة والمجتمع والوطن، حس الدبيب العابر، وبالمعنى الشعبي والعرف السائد فإن وجوده، رغم هامشيته، هو «الخير والبركة».. هل حقًا!! عجبًا ان يكون هو «الخير والبركة» وعلى ارض الواقع يهان بوضعه على طاولة الادارة للحساب والمحاسبة، وتحديد ما يستحق وما لا يستحق. أليس من الاجدر ان نترجم عمليًا وعلى ارض الواقع هذا المثل الشعبي الراسخ في عمق نفسية المجتمع، وهو مثل نابع من اخلاقية المجتمع ومستوى تحضره ووعيه. الكلمة تحمل صاحبها مسؤولية ما تحمله الكلمة من معنى، والمعاني المكنونة في كلمة المثل الشعبي تضع المجتمع والوطن امام امتحان اخلاقي ووجداني ناهيك عن الامتحان الحقوقي.. وهنا المحك بين القول والفعل.
مشاركة :