عاشت بعض الدول الغربية على غرار كندا وفرنسا وبلجيكا حركات احتجاجية ضد حكومات بلدانها، لرفض التضييقات القانونية، التي فرضتها جائحة كورونا. وهذه الاحتجاجات التي- رغم طابعها الأقليّ- تمكنت من تعطيل كل شيء في مونتريال الكندية، والشيء ذاته تقريباً في باريس السبت الماضي، وإن كان بحدة أقل، والمحور الأساسي لهذه الحركات الاحتجاجية هو رفض التطعيم الإجباري، ورفض الاستظهار بجواز التطعيم أو الجواز الصحي وعدم اعتبار ذلك من الحقوق الأساسية للمواطن، ومن الحريات عموماً، وهو ما دفع منظمي هذه الحركات الاحتجاجية في مختلف الدول، التي عاشتها وتعيشها، إلى تسميتها بـ«مواكب الحرية». ولا يخفى أن مسألة التطعيم ضد فيروس كورونا أثارت جدلاً كبيراً في عدد من الدول الغربية لاعتبارات مختلفة، منها الرفض المبدئي للتطعيم، ومنها وبالخصوص فقدان ثقة المحتجين في قرارات سلطات بلدانهم وفي قوانينها، وهو ما يثير تساؤلات كبيرة حول طبيعة الأنظمة السياسية التمثيلية، ومدى قبول المواطن في الدول الغربية عموماً لحكومات، جاءت بها صناديق الاقتراع وفقاً لمبدأ الانتخاب. ومعلوم أن العقد الاجتماعي والسياسي، الذي يربط عموماً مختلف مكونات المجتمع في هذه الديمقراطيات الغربية يُقر بأن آلية الانتخاب هي التعبير والضمانة الأساسية للممارسة الديمقراطية وبأن ما تفرزه انتخابات ديمقراطية وشفافة يكون مقبولاً من الجميع وسارياً على كل المجتمع، وهذه الضمانة من شأنها أن تحقق من جهة استقرار النظام السياسي، ومن ناحية أخرى تؤمن مبدأ التداول على السلطة. الواضح الآن أن هذه القناعات لم تعد محل إجماع في الديمقراطيات الغربية، حيث بات من البين أن رفض القبول بنتائج الانتخابات هو في تنام مستمر، وهو رفض لم يعد يمارس ويعبر عنه فقط داخل المؤسسات عن طريق أصوات المعارضين من الأحزاب، وغيرها لأسباب تعلقت بضعف هذه الأحزاب ووهنها، ولم يعد أيضاً تعبر عنه مكونات المجتمع المدني والأهلي لاهتزاز واهتراء علاقاتها بمنظوريها ومنخرطيها، وإنما خرج الرفض، الذي توسعت موضوعاته إلى الشارع، واكتسى طابعاً فوضوياً في بعض الأحيان. وبدل أن تكون العملية الانتخابية نهاية وقتية لمرحلة تنافس بين الأحزاب يُفسح المجال بعدها للفائز في الانتخابات أن يحكم وفق برنامجه السياسي، على أن يُحاسب على نجاحه من عدمه في المحطة الانتخابية اللاحقة، أصبح الخاسر في الانتخابات يرفض بدءاً الاعتراف بنتائج انتخابات لا يفوز بها، الولايات المتحدة مثال على ذلك، ويعمد ثانياً إلى الرفض الآلي لسياسات وقرارات السلطة المنتخبة، واضعاً بذلك مبدأ الانتخاب في خطر حقيقي. وقد ازداد هذا الوضع تأزماً بفعل المقاطعة المرتفعة والمتصاعدة لعمليات الانتخاب، وهو ما أضعف المشروعية المواطنية والانتخابية لأي حكم تفرزه انتخابات ضعيفة المشاركة، وهذه المقاطعة التي يمارسها عموم المواطنين هي نتيجة مباشرة لرفضهم طبيعة، ومآلات الصراع بين السياسيين والأحزاب في بلدانهم، إذ أصبحت القناعة تترسخ لديهم بأن المشهد الحزبي والسياسي لم يعد يمثلهم ويعبر عن قناعاتهم وطموحاتهم، ولم يعد بالتالي يستجيب لمطالبهم في حياة حرة وكريمة، وهو ما دفع جزءاً كبيراً منهم إلى الانزواء وهجر الحياة السياسية ومقاطعة المشاركة في الشأن العام، ودفع الجزء الباقي إلى ممارسة المعارضة خارج الأُطر الرسمية للدولة، وهي ممارسات اتخذت وتتخذ أحياناً أشكالاً متطرفة وعنيفة. إن ما أُصطلح على تسميته بـ«مواكب الحرية» في كندا وفرنسا وبلجيكا وأمريكا هو، في ظاهره، رفض للتقيد الذي فرضه الوضع الوبائي في العالم، ولكنه في جوهرة رفض للمنظومة التمثيلية القائمة على الانتخابات، وهو ما يفسر المعارضة الممنهجة للمواقف والسياسات الرسمية للحكومات، الشيء الذي أضحى يهدد كيانات الدول وتماسك المجتمعات. والرأي عندنا أنه ما كل حراك مجتمعي مهما بدا مبرراً للبعض، ومهما كانت دوافعه مؤسَسة على حقوق تبدو أساسية تكون له مآلات إيجابية على تطور المجتمعات والدول، وقد علمتنا التجارب الإنسانية والأحداث المستجدة أن طريق دمار المجتمعات والدول قد يكون مفروشاً بالحقوق الفردية والجماعية، التي تُثار في غير توقيتها وموضعها. طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :