حب الوطن فطرة جبلوا عليها، وطاعة ولي الأمر قيم تربوا عليها، فأثمر ذلك أبطالاً ترخص أرواحها وتبذل الغالي والنفيس لإعلاء كلمة الحق، وهو ما جسدته فعلاً تضحياتهم في ميادين العز والفخر، فكوكبة الشهداء التي انتقلت إلى جوار ربها، مستبشرة بكرامة سوف تبقى خالدة في ذاكرة الوطن على مر الأزمان، وهي التي تزيد أبناء الإمارات فخراً واعتزازاً. تلك الكلمات تحدث بها إبراهيم البدواوي، ملخصاً شهادته عن ابنه الشهيد عيسى، الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى، ضمن مجموعة الشهداء البررة المشاركين في عملية إعادة الأمل في اليمن الشقيق. تفاصيل راسخة ولد الشهيد عيسى البدواوي عام 1988 في مدينة حتا، التابعة لإمارة دبي، وهو الابن البكر للأسرة المكونة من 13 فرداً، حيث كانت الفرحة بقدومه كبيرة جداً، ويدرك معناها كل أب وأم، فاللحظات بجوار الابن الأول مختلفة، والتفاصيل تبقى راسخة، والتصرفات والسلوكيات التي يمارسها البكر، تظل محفورة في الذهن والوجدان. عاش الشهيد طفولة مدللة، كما يروي والداه، وكان يمارس بعض مظاهر الشقاوة، وتوقع الكثير من الأقارب أن تتضاعف هذه السلوكيات، لكن ملامح الهدوء كانت أكثر بروزاً على شخصيته مع مرور الوقت، وهي ما جذبت محبة كبيرة وأصدقاء كثر، وعندما بلغ سن الدراسة، سارع والداه إلى إلحاقه بالمدرسة، وقد ارتبط بها بعلاقة متذبذبة، فتارة يبرز عليه الشغف والالتزام، وفي أحيان أخرى تتثاقل خطاه عندما يقصد أبوابها، وعلى الرغم من التشجيع الذي كان يحظى به من والديه، إلا أن ذلك لم يجد نفعاً معه، حيث كان مصراً على قناعته، وقطع حدود علاقته بالمدرسة. المدرسة والجيش لم يمارس والدا الشهيد ضغوطات على ابنهما لإرغامه على المدرسة، واكتفيا بتوضيح أهمية التعليم والشهادة لمستقبله، وفي خضم هذا الصراع الذي كان يعيشه مع المواد الدراسية، تشبث بطموح آخر، وهو العمل في القوات المسلحة، الذي بدأ يعد له الأيام والليالي، ليصل إلى السن التي تؤهله لذلك. ولعل ما حفزه على القيام بهذه الخطوة، إعجابه الشديد بزي والده، الذي كان يعمل في السلك العسكري، حيث ظل يحرص على استقباله خارج المنزل، ليراه بالزي الذي أصبح ارتداؤه حلماً بالنسبة له، وهو ما بدأ يقدم عليه في الخفاء، كلما سنحت له الفرصة. عندما وصل الشهيد إلى الصف الأول ثانوي، شعر أن رغبته للدراسة لا تسعفه على أن يكمل مرحلة أخرى، فأبلغ والديه بكل صراحة وجرأة، على عزمه ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بالعمل في القوات المسلحة، وكان يخشى حينها رفض الفكرة، وسُرَّ كثيراً حين عرف عدم معارضتهما الفكرة، رغم استمرارها في التأكيد عليه مراراً وتكراراً، بأن يراجع نفسه قبل اتخاذ القرار بصورة نهائية. الزي العسكري بعد فترة قليلة، أصبح الطموح والحلم واقعاً، وارتدى الشهيد عيسى، الزي العسكري لأول مرة، وبدأ تفانيه وإخلاصه لهذه المهنة كبيراً، بصورة لا يمكن مقارنتها مع علاقته بالمدرسة، حيث كان أكثر حماساً والتزاماً في العمل، وبدأ يطور قدراته وإمكاناته، وتوجه إلى خبرته في التقنيات التي حصدها من تفتيت وإصلاح ألعاب الطفولة، لكن هذه المرة بصورة أكبر وأكثر جدوى، وذلك حين وجه طاقته إلى تعلم أسرار الكمبيوتر، الذي أصبح في ما بعد جزءاً من عمله. وعندما حانت لحظة الحق والشهادة، تلقى ذوو الشهيد خبر استشهاد ابنهم بصبر وثبات، واحتسبوه عند الله شهيداً، مؤكدين عند استقبال جثمانه الطاهر، أنهم جميعاً فداء للوطن، وعلى استعداد لتقديم أرواحهم لطاعة أولياء الأمر والدفاع عن المظلوم في أي مكان من العالم. فرحة المشاركة 10 سنوات قضاها الشهيد عيسى البدواوي في القوات المسلحة، التي كان يوليها الجزء الأكبر من يومه، وحينما شاركت الدولة ضمن قوات التحالف، بقيادة المملكة العربية السعودية في عملية إعادة الأمل في اليمن، حرص عيسى على أن يكون ضمن المشاركين، وحين وقع عليه الاختيار، استبشر بهذه المهمة، وعاد إلى أسرته فرحاً، وودعهم بإحساس مبالغ فيه، ليتوجه بعد ذلك إلى أرض المعركة، ورغم كل ذلك، بقي في تواصل مع أسرته، معبراً دائماً عن فرحته بالمشاركة، كما يبوح لأصدقائه المقربين بطموحه في الشهادة، التي نالها حقاً في 14 سبتمبر الماضي، ضمن كوكبة الشهداء الذين روت دماؤهم الطاهرة أرض اليمن الشقيق.
مشاركة :