لم يشعر بطرق الباب حين طرق ولا بفتحه حين فتح ولم يحس مكان الخادم حين أقبلت تحمل الشاي فوضعته على المائدة عن يمينه، وألقت اليه نظرة سريعة فيها شيء من عجب وكادت ترفع كتفيها ساخرة، لولا أن ملكت نفسها، واستحضرت ما يجب عليها من توقير سيدهـا، فانصرفت متباطئة متثاقلة، حتى إذا بلغت الباب فتحته في شيء قليل من العنف وأغلقته من ورائها في شيء قليل من العنف أيضًا تريد أن تنبه هذا الذي لا ينتبه لشيء لأنه مغرق في قراءته. على أنها لم تكد تغلق الباب من ورائها حتى أحست شيئًا من راحة الضمير فقد أدت الواجب کاملًا، حملت إلى سيدها الشاي في إبانة، وطرقت الباب وخيل إليها أنها سمعت الأذن لها بالدخول، فدخلت وخرجت وأنت من الحركات ما يوقظ النائم فكيف بتنبيه الغافل أو الذاهل أو المغرق في القراءة؟ لقد أدت الواجب كاملًا فلا عليها أن يتنبه سيدها أو لا يتنبه، ولا عليها أن يشرب الشاي وهو ساخن كما يحب، أو أن يشربه وقد أدركه الفتور أو البرد أو ألا يشربه أصلًا. والواقع أن سيدها لم يتنبه لمقدمها ولا لانصرافها ولا الشاي الذي كان يدعوه عن يمينه، ولكنه لم يكن يسمع دعاء ولا يجد الظمأ كما تعود أن يجده كل يوم في هذا الموعد الذي كان يقدم اليه فيه الشاي. كان مغرقًا في القراءة، ثم انتهى من الكتاب الذي كان يقرأ فيه إلى فصل لم يتجاوزه، وإنما عاد إليه فقرأه مرة ثم كف عن القراءة ولكنه وصل بصره في هذا الفصل الذي أعاد قراءته وظل مطرقًا ممعنـًا في الإطراق والتفكير، ثم رفع رأسه وعلى ثغره ابتسامة يسيرة، ثم نظر أمامه لا يريد أن يري شيئًا وإنما هو واجم باسم ينظر ولا يرى ويفكر ولا يحقق شيئًا، تم تتسع ابتسامته قليلاً ثم ينفرج فمه عن ضحك يريد أن يعلو، ويملأ الغرفة لولا أنه يمسكه ويوشك أن يرده إلى جوفه ردًّا لأنه قد ثاب إلى نفسه فجأة وأشفق أن يسمع ضحكه من وراء الباب فتظن به الظنون، هنالك التفت فرأي إبريق الشاي كئيبًا مستخذيًا لكثرة ما دعا إلى نفسه وألح في الدعاء فلم يستجب له أحد لأن دعاءه لم يبلغ أحدًا. فأقبل صاحبنا على الإبريق يمسه بيده مسًّا خفيفًا ثم يمسحه بيده مسحًا متصلًا كأنها يترضاه ويعزيه وقد أحس برد هذا الإبريق وعرف أن الشاي الذي يحتويه لم يعد ملائمًا لذوقه وألفه، وهم أن يدق الجرس ويدعو الخـادم لتأتيه بشاي جديد ولكنه استحيا وأشفق أن تسخر منه الخـادم إذا رأت شابها لم يمس وأن تعيد القصة على امرأته وبنيه فلا يفرغ ولا من عبثهم إذا كان العشاء. فلم ير بدأ منان يشرب الشاي كما هو، وقد ملأ قدحه وجعل يدير فيه الملعقة يريد أن يذيب هذا السكر الذي يستعصي ولا يريد أن يذوب في هذا السائل البارد. ولكن صاحبنا نسي الشاي مرة أخرى وجعلت يده تدير هذه الملعقة في هذا القدح إدارة آلية غير شاعرة بنفسها لأنه عاد إلى التفكير في هذا الفصل الذي يردد قراءته آنفًا. ثم عاد إلى التفكير في هذا الفصل، ثم لم يطل الوقوف عنده هذه المرة، وإنما ذهب به الخيال مذاهب مختلفة لم تلبث أن ردته إلى الضحك المكظوم. ولكن هذا الفصل من كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء ويجب أن أروي لك بعضه لتعذر صاحبنا في إطالة الوقوف عنده والتفكير فيه ثم في اتخاذه معراجًا يرقى فيه الى سماء بعيدة جدًا من سماوات الخيال: «يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعام بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته..». فقد وقفه هذا الكلام الغريب، أضحكته الصور الظاهرة منه أول الأمر، ثم جعل يستعرض طائفة من اصدقائه وذوي معرفته فيتخيل بعضهم ماشيًا على رأسه قد اتخذ الطربوش أو العامة أو القلنسوة غطاء لرجليه، ويتخيل بعضهم باكيًا بإحدى أصابعه أو آكلا بإحدى أذنيه، فتدفعه هذه الصور مطبقة على ما يعرف من أصحابه إلى الإغراق في الضحك، ثم تثوب إليه نفسه شيئًا فشيئاً، ويقدم عقله على الجد قليلًا قليلًا. وإذا هو ينظر إلى الأمر نظرة فلسفية حازمة، فيرى أن صاحب هذه الخواطر لم يخطئ. فقد خلق هذا العالم على هذا النحو الذي نعرفه وكان من الجائز أن يخلق على نحو آخر، بل من الجائز أن يحوله خالقه من هذا النحو الذي خلقه إلى نحو آخر يمشي فيه الناس على رءوسهم وينظرون بآذانهم.. إلى آخر ما زعم أبوالعلاء.
مشاركة :